حمدى رزق
ولما قبل (عبدالوهاب) رأس (الباقورى) فى الإذاعة وقال له: «هذه لسماحتك الدينية»، رد الباقورى قبلة عبدالوهاب فى رأسه وقال له: «وقبلتى هذه لأنك بموسيقاك تسمو بوجداننا». عملاقان يتواضع كل منهما للآخر، تخجل وأنت تطالع مثل هذه السماحة الدينية من الشيخ الباقورى رحمه الله، نموذج ومثال لشيخ معمم ورع لا يخاصم الموسيقى، ولا يحرم الفن، ولا يتألى فيدخل هذا النار ويخرج هذا من رحمة الله، شيخ مهيب يقدر الفن فى رمزيته (عبدالوهاب)، ويقبل رأسه إكراما لموسيقاه التى تسمو بالوجدان، وموسيقار ينزل رجال الدين منازلهم الكريمة.. يعتريك الخجل وأنت تطالع مثل هذا الحوار السمح بين طيب الذكر الشيخ «أحمد حسن الباقوري» من علماء الأزهر الشريف، وموسيقار الأجيال المرحوم «محمد عبدالوهاب»،

وتقف إجلالا واحتراما لهذه الصورة التى تحتفظ بها للأجيال المقبلة محركات البحث الإلكترونية.. حالة إكبار وتواضع فى آن.. وسماحة ومحبة، تخجل منها عصبة «المحتسبين الجدد» مشايخ آخر الزمان، الذين يجولون كالعسس المطلوقة على الآمنين فى الطرقات، يتقفون حرفا فى كلمة، وكلمة فى جملة، وجملة فى أغنية، حتى عبدالوهاب الذى قبل الباقورى رأسه، كادوا يكفرونه لاحقا بسبب شطر فى أغنية «من غير ليه»، كما كفروا العندليب الأسمر «عبدالحليم حافظ» فى شطرة من قصيدة «لست قلبي» من إبداعات طيب الذكر «كامل الشناوي» يقول فيها «قَدَرٌ أحمَقُ الخُطى سَحَقت هامَتى خُطاه»!! هم أنفسهم من سخروا من «كوكب الشرق» السيدة «أم كلثوم» ودعوا عليها بالهلاك، وتاليا أفتوا بتحريم روايات عميد الرواية العربية «نجيب محفوظ»، وحاول غلمانهم اغتياله ولكن الله سلم. الطور المتحور من «المحتسبين الجدد» شديد الخطورة على الحياة، يكره الحياة ، يكره الفن والموسيقى والألحان، طور شديد العدوى، فتاك،

ويفتون فى الناس بغلظة، ويحكمون ما يستبطنون فى الإبداع . والحرام بات عنوانا، فيحرمون الموسيقى، ويكفرون المغنيين، ويحجرون على الموسيقيين، ويخرجون المؤلفين من الملة والدين .. معلوم من ألف قد استهدف على قول طيب الذكر عميد الأدب العربى «طه حسين» .. ويصادرون الأفلام التى لم يطالعوها لأن السينما عندهم فى الأصل حرام، وكذا يخمشون اللوحات ويزدرونها، وكأنهم على دين غير دين الباقورى السمح (رحمه الله) . من يطالع صورة (الشيخ الباقوري) الجليل مقبلا رأس الموسيقار (عبدالوهاب) يفهم عبقرية وتفرد هذا الجيل من شيوخ مصر المحروسة، يتحسر على ماض تولى، تخيل هذا كان يحدث فى مصر قبل بروز طائفة «المحتسبين الجدد» الذين طاحوا فى الخلايق تكفيرا وتفسيقا .. ومن يطالع الصورة (أبيض وأسود ) يتحسر على جيل من المبدعين كانوا يقدرون علوم الدين، ولا يبتدرون المشايخ العداء، ولا يسخرون من المعممين، ينزلونهم منازلهم فى رقى، كانت بينهم مودة ورحمة .. ‎يحفظ تاريخ الفنون فصولا راقية تحكى قصصا شيقة عن علاقة الفن والدين، يذكر عندما قرر الرئيس الشهيد (السادات) طيب الله ثراه، أن يجمع بين المنشد الكبير الشيخ «سيد النقشبندي» والموسيقار الاستثنائى (بليغ حمدي)، فأمر مازحا: «احبسوا النقشبندى وبليغ مع بعض لحد ما يطلعوا بحاجة».

جمع السادات بذائقة إيمانية فنية بين الحسنيين، بين صوت من أصوات السماء، ونغم من أجواز الفضاء، فكان الابتهال الخالد «مولاى إنى ببابك»، ليكون بداية عمل فنى / دينى عظيم، ما بين المنشد والملحن جولات من الابتهالات التى عمرت طويلا لعمق الإبداع والإحساس، فى استخدام راقٍ للموسيقى فى مزاوجة مع الابتهالات، (لحن بليغ للنقشبندى خمسة ابتهالات أخرى ليكون حصيلة هذا اللقاء ستة ابتهالات محفوظة للأجيال ) . لا تزال ابتهالات النقشبندى بألحان بليغ ، ترطب قلوبنا وتزكى نفوسنا، وتريح أرواحنا المتعبة شوقا إلى محبة العلى المتعال .. جل جلاله المحتسبون فى الأرض للأسف عينوا أنفسهم رقباء على الإبداع، ومراقبين لما يذاع، وناقدين للأفعال والأقوال، ورافضين لكل ما هو جميل ، ويعزون رفضهم بتصدير الحرام فى الوجوه الطيبة . يمارسون إرهابا فكريا رهيبا، ويشنون غارات عاتية على المبدعين، يسومونهم سوء العذاب، ولا يرعوون لخلق أو دين، ولا يفقهون فقه السماحة والتيسير على عباد الله الصالحين، لا تعرف لماذا يعادون الموسيقى، ولماذا يتقصدون الفن، ولما يكرهون المبدعين .. ليتهم يطالعون صورة الباقورى وعبدالوهاب فيها من السماحة ما يفيض على الوديان فتصير جنانا غناء .
نقلا عن الاهرام