سمير مرقص
(١) «الأبعاد الاقتصادية والسياسية للصراعات الدولية»
«برميل البارود».. هو الوصف المعتمد لوضعية منطقة البلقان عشية الحرب العالمية الأولى التى اندلعت سنة ١٩١٤. فلقد كان هذا الوصف أشبه «بالكود الشفرى» الذى تم الأخذ به فى كل الأدبيات التى تناولت السياق الاقتصادى والسياسى لتلك المنطقة، والأسباب التى أدت إلى اشتعالها مطلع العقد الثانى من القرن العشرين. وربما يكون الفيلسوف البريطانى ومؤسس دورية اليسار الجديد «بيرى أندرسون» (١٩٣٨ــ ) هو أول من لفت نظرى لأهمية التحليل الاقتصادى- السياسى، والبحث فيما وراء اللافتات الدينية والحضارية والثقافية التى تُرفع للتغطية على حقيقة الصراع، وذلك فى كتابه المرجعى المهم: «أصول دولة السلطة المطلقة- ١٩٧٤»؛ فى تحليله لطبيعة الصراع بين القوى الكبرى التى كانت سائدة آنذاك: أوروبا الرأسمالية الصاعدة بقوة من جانب والإمبراطورية العثمانية- قيد الأفول- كانت نموذجًا للحكم المطلق ما قبل الرأسمالى من جانب آخر. وكيف أن منطقة البلقان فى ظل حكم الباب العالى كانت تبدو معزولة، وأن طبيعة النظام العثمانى تفسر لماذا بقيت شبه جزيرة البلقان تشكل مساحة جغرافية- سياسية ذات تطور تاريخى أدنى من تطور أوروبا الصناعية ما جعلها تصبح «برميل البارود» powder – keg، «فى أوروبا وشرارة اشتعال حريق ١٩١٤» التى كانت نقطة تحول تاريخية نحو تفكك الإمبراطوريات القديمة السلطوية والمستبدة لصالح الدول الرأسمالية الصناعية القومية.
(٢) «بلقنة الشرق الأوسط»
تذكرت ما سبق، ما دفعنى لإعادة قراءة نص أندرسون مرة أخرى، وغيره، فى محاولة لفهم ما يجرى فى إقليم الشرق الأوسط من حرب مفتوحة بعيدًا عن المبررات والدوافع الدينية. تلك الحرب التى يقوم بها الكيان المحتل، ومن خلفه الأطلسى والولايات المتحدة الأمريكية، التى وصف رئيسها نفسه فى بدايتها بأنه: صهيونى، فى ظل صمت أوروبى شبه تام، وترقب صينى وروسى. وحتى نؤمن فهمًا وافيًا كان لابد من مراجعة الأدبيات الإسرائيلية حول إدارة الصراع فى الإقليم. وبعد بحث طويل- لم يزل قائمًا- وجدت أن أحد أهم أهداف الاستراتيجية التى تعمل عليها دومًا هو إتمام «بلقنة الإقليم» ما يحقق لها الانقضاض على «المقاومين» وعزلهم فى إسرائيل الكبرى جغرافيًا وفق عقيدة التوسع الراسخة لديها. ودمج «السلاميون»- كتابعين- فى إسرائيل العظمى اقتصاديًا. ونستعيد هنا كلمات العالم الراحل «الدكتور عبدالوهاب المسيرى» التى وردت فى موسوعته العمدة: «اليهود واليهودية والصهيونية»، والتى لفت النظر فيها إلى التوسع الإسرائيلى المركب بين أن تكون إسرائيل عظمى اقتصاديًا وكبرى جغرافيًا فى ذات الوقت. بلغة أخرى لم تعد إسرائيل تكتفى بلعب دور رأس الحربة للتحالف الغربى الأطلسى الذى تم تصميمه عقب الحرب العالمية الثانية، إذ أصبحت بمرور الوقت شريكًا، بل قوة إقليمية تحارب فيما وراء حدود الجيران.
(٣) «من النكبة إلى النهضة»
هذا هو التحول النوعى الذى طرأ على الكيان المحتل الذى كانت قناعته زمن النكبة (١٩٤٨) أن الأرض هى المصدر الأساسى لتدفق فائض القيمة على الكيان الاستيطانى، وأنه كلما اتسعت هذه القاعدة ازداد تدفق فائض القيمة وازدادت إسرائيل قوة انطلاقًا من أن التوسع فى الأرض يعنى قدرة بشرية أكثر. وذلك فى إطار أنها كيان امتداد للهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، التى كانت تهدف إلى استدامة تقاسم الثروة والنفوذ فى الإقليم. بيد أنه، ومع مرور الوقت، أصبحت إسرائيل تتحرك كدولة شريك. إذ نجحت فى أن تتواصل مع الصين اقتصاديًا التى باتت الشريك التجارى الثالث لها، وأن تجعل الهند تستورد منها ما يزيد على ٥٠٪ من صادرات السلاح الإسرائيلية. إضافة إلى إطلاقها مشروعًا عابرًا للقارات فيما يمكن تسميته باقتصاد الممرات «Corridor Economy»، ينطلق من الهند ويمر بحيفا ويمر ببعض دول الإقليم وينتهى فى أوروبا. هذا إضافة إلى الشراكة التقنية والعلمية التى قامت بها مع العديد من دول العام المتقدم. وبالتزامن انخرطت فى عملية سلام كانت تهدف إلى ما بات يُعرف فى الأدبيات التى تتعلق بالصراع العربى- الإسرائيلى «بتذويب القضية الفلسطينية». وبالأخير استطاعت إسرائيل أن تكرس نفسها كقوة شريك فى التحالف الأمريكى الأطلسى ومن ثم قوة إقليمية لديها من مقومات التقدم الاقتصادى والعلمى والتقنى الكثير. ما يدفعها إلى الجمع بين فكرتى إسرائيل الكبرى والعظمى. وهو ما عكسته كلمة رئيس وزراء الكيان الإسرائيلى قبل يوم بأننا نخوض حرب نهضة تدفعه لأن يذهب بالحرب إلى عمق الدولة الإيرانية، وإعادة رسم خريطة المنطقة. وبقدر ما عكست السنة المنصرمة مدى وحشية السلوك الإسرائيلى حيال الأرض والبشر وإصرارها على عدم إقرار العدالة إلا أنها من جانب آخر أشارت بوضوح إلى أن دول الإقليم تعيش زمنًا «بلقانيًا»، بدرجة أو أخرى، بامتياز، ما قد يفجر «برميل البارود»: الشرق الأوسط.
نقلا عن المصرى اليوم