سقطةٌ خطيرةٌ للدكتور خزعل الماجدي

د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك
(أستاذ في "الجامعة الأغسطينيّة" بالعاصمة الكولومبيّة "بوغوتا")


مُقدّمةٌ
لقد خرج علينا الدّكتور خزعل الماجدي، أحد المتخصّصين والباحثين المعروفين في تاريخ الأديان والحضارات، بزَعْم فحواه "الأصول المثرائية للديانة المسيحية" (https://www.youtube.com/watch?v=pX5h2UJJgIE)، في إحدى حلقات برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي يقدّمه الأستاذ خالد الرّشد. وجديرٌ بالذّكر أنّ هذا الفيديو قد حُذِف من على منصّات "اليوتيوب"؛ ولكن، يمكن للقَارِئ الكريم أن يجد بعض العناصر الأساسيّة لهذا الزَّعْم على صفحة الفيسبوك الخاصّة بالدّكتور خزعل الماجدي (https://www.facebook.com/share/p/CUSmT3XvwRANcy4z/?mibextid=oFDknk؛ https://www.facebook.com/share/v/tt5YxM9L9Tfwxdun/?mibextid=oFDknk).
إنّها لسقطة خطيرة ومدوّية للدكتور خزعل؛ أجل، هي سقطةٌ على مستوى المنهج والمحتوى، بما تحمله من مغالطات منطقيّة وادّعاءات أبعد ما تكون عن الحقيقة المنهجيّة والتّاريخيّة والثّيولوجيّة. ولذا، فكمسيحيٍّ أقدّم هنا –في نطاق الحوار النّقديّ والبنّاء– بضعة تساؤلات متعلّقة بمنهج ومحتوى هذا الزّعم "الخزعليّ" (نسبة لاسم الدّكتور "خزعل"). وستدور هذه التّساؤلات ليس حول مكوّنات "الدّيانة المثرائيّة"، وعنايتها بالإله "الابن"، ومنبعها الأصليّ (إيران أم إيطاليا؟)، ومراحل تطوُّرها، وإنّما حول صلتها ومطابقتها –وفقًا لزعم الدّكتور خزعل– مع المسيحيّة، وحول صحة هذا الأمر منهجيًّا وتاريخيًّا وثيولوجيًّا.

أوّلًا: المنهجُ (أو "كيف تحوّلت المثرائية إلى المسيحية في الغرب؟")
1. كما هو معروف كمبدإ علميّ، على الباحث أن يدرك جيّدًا "المنطقة" أو "الحيز" الذي يتحدّث وينطلق منه. فهل ما يقوله الدّكتور خزعل في الفيديو ينبغي تصنيفه في نطاق تاريخ الأديان، أم فينومينولوجيا الأديان، أم فلسفة الأديان، أم ثيولوجيا الأديان، أم التّنظير حول الأديان، أم ماذا؟  

2. هل الدّكتور خزعل ليس على دراية كافية بالكم الهائل من الدّراسات الأجنبيّة حول بدايات المسيحيّة الأولى وجذورها؟ لقد نشأت مدارس حديثة حاولت الرّبط بين المسيحيّة والهلينيستيّة، والمسيحيّة والأديان الآسيويّة، والمسيحيّة والدّيانة المصريّة القديمة، والمسيحيّة واليهوديّة. وقد استقرّت أخيرًا أغلب الدّراسات التّاريخيّة على الجذور اليهوديّة للمسيحيّة بشكل أساسيّ (مع الانفصال التّدريجيّ بين الدّيانتَين)، وأنّ يسوع النّاصريّ كان يهوديًّا منذ مولده حتّى مماته.

3. كيف يربط الدّكتور خزعل بين محتوىً مُعروف بأنّه "ميثولوجيّ" ("مِثرا" في إيران أو مكان آخر) ومحتوى آخر مثبت بالأركيولوجيا والوثائق القديمة بأنّه "تاريخيّ" (وجود "يسوع النّاصريّ" وتعاليمه وأعماله في نطاق فلسطين القديمة)، ويجعلهما مترادفان ومتطابقان؟

4. وهل المنهج الأكاديميّ والعلميّ يقوم على سياسة "انتقاء" بعض التّشبهات والمفارقات بين الأديان وبعضها، ليخرج علينا الدّكتور خزعل بزعم مفاداه أنّ المسيحيّة لها "أصول مثرائية"، وأنّ المسيحيّة والمثرائية هما مترادفتان؟

5. هل لمجرّد "التّلقيح" أو "الاتصال والتّواصل" أو "الانثِقاف" –إذا وُجِد– بين الأديان المختلفة وبعضها، والثّقافات المختلفة وبضعها، في بضعة مفردات وعناصر وطقوس، يسوغ لنا الوقوع في مغالطة "استنساخ" و"مطابقة" الأديان لبعضها؟

6. كيف ينتقل من أزمنة وأماكن ما (إيران) إلى أزمنة وأماكن أخرى (روما)، بطريقة عشوائيّة، وبدون نهج علميّ وتاريخيّ دقيقَين، ويتناسى القرون الأولى للمسيحيّة المبكرّة والأناجيل المكتوبة في القرن الأوّل الميلاديّ، في محيط اليهوديّة الهلينيستيّة، ويتجاهل حقبة اضطهاد الأباطرة الرّومان للمسيحيّين، ويقفز إلى الإمبراطور "قسطنطين الأوّل" (القرن الرّابع الميلاديّ)، ثمّ إلى الإمبراطور "ثيودوسيوس الأوّل" (القرن الرّابع الميلاديّ)، وهذا كلّه لينسج الدّكتور خزعل ادّعاء خياليًّا وهميًّا، وخاليًّا من الأسس التّاريخيّة؟ إنّ فحوى زعمه ببساطة ينادي بأنّ المسيحيّة هي ديانة جذورها وأصولها وعناصرها ترجع إلى "المثرائية الإيرانيّة"، وقد أنتجها الرّومان (مُضطهِدو المسيحيّين في القرون الثّلاثة الأولى!)، وليس مصدرها يسوع النّاصريّ وأتْباعه ذوو الجذور اليهوديّة. وليس هذا فقط، بل يزعم الدّكتور خزعل –خلافًا للدراسات التّاريخيّة والنّقديّة المعاصرة– بأنّ المسيحيّة في بداياتها كانت "مسيحيّة واحدة   بسيطة جدًّا"؛ وينتهي به الأمر إلى حدّ مطابقة المثرائيّة بالمسيحيّة ونهاية المثرائيّة!
 
ثانيًا: المحتوياتُ (أو "العناصر المثرائية التي ترسخت عند الرومان في القرن الميلادي الثاني")
1. التّثليث:

عندما يقول الدّكتور خزعل بإنّ "الثّالوث المسيحيّ" مأخوذ من "ثالوث المثرائيّة"، ويشرح أنّ هذا الثّالوث الأخير يحتوي على أب وابن وأمّ (أي ثلاثة أشخاص مُتَبَاينة ومنفصلة ومتّسمة بالطّبيعة البيولوجيّة والجنسيّة)، أليس هو على دراية كافية بالثالوث المسيحيّ، حيثُ الأقانيم الثّلاثة (آب وابن وروح) هم جوهر الله الواحد الأحد؟ بكلمات أخرى، نحن في المسيحيّة نحاول محاكاة سرّ "الثّالوث الأحديّ الجوهر" و"الوحدة الإلهيّة الثّلاثيّة". فهل يا تري يحاول الدّكتور خزعل أن يضع "العذراء مريم" كجزء من الثّالوث المسيحيّ، ليقدّم عقيدة جديدة في المسيحيّة، وهو الأمر الذي لا ينادي به المسيحيّون أنفسهم؟

2. ميلاد مِثرا يوم 25 ديسمبر/ كانون الأوّل:
لا أدري ما هو مصدر هذا التّاريخ (25 ديسمبر/ كانون الأوّل) في ما يتعلّق بميلاد "مِثرا"! وعلى كلّ حالٍ، وكما قال مقدّم البرنامج الأستاذ خالد، هو تاريخ معروف في ثقافات أخرى. ولكن ما نعرفه كمسيحيّين هو أنّ يسوع النّاصريّ لم يُولد في الـ25 من ديسمبر/ كانون الأوّل، ولا نعرف على وجه التّحديد تاريخ ميلاده. وقد اختار المسيحيّون الأوئل هذا التّاريخ كنوع من "الانثِقاف"، لأنّ فيه يبدأ الليل في القِصْر والنّقصان والنّهار في الطّول والزّيادة ("انتصار الشّمس" أو "انتصار النّور على الظّلام")، باعتبار المسيح الشّمس التي أضاءت ظلمات البشريّة.

3. البشارة، سيرة مِثرا، علامة الصّليب، الصّعود، الطّقوس، المناولة:
لقد أشار الدّكتور خزعل إلى هذه العناصر كلّها (البشارة، سيرة مِثرا، علامة الصّليب، الصّعود، الطّقوس، المناولة)، بدون تفاصيل دقيقة وشروحات محكمة؛ وقد أخذ بضعة مفردات وبنيتها العامّة لكي يبرهن على "مطابقة" المثرائية بالمسيحيّة. فهل في "المثرائية" جاء ملاكُ الرّب إلى عذراء من النّاصرة ليبشّرها بميلاد طفل يُدعى ابن العلي؟ وهل بشّر أتْباع "مِثرا" به «في أورشليم وكلّ اليهوديّة والسّامرة، حتّى أقاصي الأرض» (رسل 1/ 8)؟ وهل وُلِد "مِثرا" في ظروف كتلك التّالي وُلِد فيها يسوع النّاصريّ؟ وهل كان "مِثرا" واعظًا متجولًا وصانع عجائب ومعجزات كالتي أجراها المسيح؟ وهل صُلِب ومات وقام وصعد "مِثرا" على غرار المسيح؟

4. الصّليب:
كيف يقول الدّكتور خزعل بإنّ المثرائية لديها "صليب وقيامة وصعود كما في المسيحيّة"؟ هل لم يتفحّص جيّدًا أن علامة "صليب المسيح" ليست مجرّد رمز دينيّ في المقام الأوّل، وإنّما حقيقة تاريخيّة مثبتة؟ لقد مات حقًّا يسوع على الصّليب؛ وهذا بشهادة الشّهود، ليس الأصدقاء فحسب (راجع يوحنا 19/35، 38-42)، وإنّما حتّى الأعداء منهم (راجع يوحنا 19/32-34؛ مرقس 15/39، 44-45)؛ وليس وفقًا لصفحات الكتاب المقدّس فحسب، وإنّما وفقًا للشهادات التّاريخيّة غير البيبليّة (الكتابيّة) أيضًا: فعلى سبيل المثال، شهادة يوسيفوس فلافيوس اليهوديّ وتاستو الرّومانيّ.

فالصّليب، إذًا، أمر محوريّ في المسيحيّة، وليس ثانويًّا، إذ إنّ مسيحيّة بدون صليب وقيامة وصعود ليست بمسيحيّة حقيقيّة؛ و«قيامة المسيح هي الحقيقةُ القمّة لإيماننا بالمسيح وهي التي اعتقدتها وعاشتها الجماعةُ المسيحيّةُ الأولى حقيقةً رئيسيّةً، وتناقلها التقليد علي أنها أساسيّة، وأَثبتتها وثائقُ العهد الجديد، وكُرِز بها علي أنها مع الصليب جزءٌ جوهريٌّ من السرّ الفِصحىّ: "المسيح قام من بين الأموات، ووطىء الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور» (كتابُ "التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، بند 638). وهل صُلِب "مِثرا" لمصالحة ما هو بشريّ بما هو إلهيّ، ومنح البشرَ النّعمةَ والامتياز ليكون الإنسانُ بالتّبنّي ابنًا لله، لا عبدًا ("الميلاد الثّاني")؛ ومن ثمّ يتّحد بالله أبيه؟

5. الطّقوس والمناولة:
ماذا يقصد الدّكتور خزعل بأنّ المثرائيّة لديها طقوس و"مناولة"؟ هل كان عندهم قُداسات حيث يُحتفل بالإفخارستيا كسرّ من أسرار الكنيسة السّبعة، إذ يقدّم "مِثرا" نفسه مأكلًا ومشربًا للبشر، حتّى يحيوا فيه وهم فيه؟

6. الإله الذي نادى به "يسوع المسيح":
مَن قال إنّه في الدّيانة المسيحيّة "هناك أهمّيّة استثنائيّة لإله قدير، بعيد، لا تناله الأبصار ولا العقول" كإلهٍ منفصل ومتباين عن الإله المتجسّد والمتأنّس ("أفتار")؟ إنّ المسيحيّة تنادي بتجسُّد اللّوغُس الأزليّ الذي يُقال عنه «في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله [...] والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده مجدًا من لدن الآب لابن وحيد ملؤه النّعمة والحقّ» (يوحنا 1/ 1 و14)؟ وبناءً على ذلك، وإن كنّا نؤمن بأنّ الإله الواحد الأحد "متعالٍ ومتسامٍ"، إلّا أنّنا ننادي به "متنازلًا ومتواضعًا" أيضًا، من جرّاء تجسُّده وتأنُّسه.  

خُلاصةٌ
أودّ أن أربط هذه التّساؤلات كلّها بالعبارات التّالية للبابا الرّاحل بِنِديكْتُس السّادس عشر (1927-2022)، إذ إنّها تشير إلى جوهر المسيحيّة وعمقها وتفرُّدها: «إنَّ العالمَ في أشدِّ الحاجة إلى إله –ولكنَّه ليس بحاجة إلى مجرّد إله أيًّا كان، وإنّما إلى الإله الذي نادى به "يسوع المسيح"، إلى الإله الذي جعل نفسَه جسدًا ودمًا، والذي أحبّنا حتّى أنّه مات لأجلنا، والذي قام وخلق في ذاته منزلةً للإنسان. فهذا هو الإله الذي يجب أنْ يحيا فينا ونحن فيه».

وأخيرًا، لا ينبغي أن ننسى أو نتناسى أنّ الله لا يترك نفسه بلا شاهد؛ فمنذ فجر التّاريخ أراد الله أن يعلن عن ذاته ("الوحي الإلهيّ") بطرق مختلفة وغير محدودة. فالأساطير المتنوّعة وإرهاصات التّدين الأولى ما هي إلّا بمثابة ظلال لحقيقة الله وخلاصه التي تجلّت بشكل نهائيّ وشامل في شخص يسوع المسيح: «ولا خلاف أن سر التقوى عظيم: "قد أظهر في الجسد وأعلن بارا في الروح وتراءى للملائكة وبشر به عند الوثنيين وأومن به في العالم ورفع في المجد"» (رسالة تيموثاوس الأولى 3/ 16). ولذ، فيصرّح المجمع الفاتيكانيّ الثّاني (1962-1965) أنّه

«منذ القدم حتى يومنا، يوجد لدى مختلف الشعوب إدراك ما لتلك القوّة الخفية الساهرة على مجرى الأمور وحوادث الحياة الإنسانية، وبعض الأحيان توجد معرفة للألوهة السامية وحتى للآب. هذا الإدراك وهذه المعرفة ينفحان حياتهم بشعور ديني حميم. أمّا الديانات المرتبطة بتقدّم الثقافة، فإنها تحاول أن تجيب على الأسئلة ذاتها بتعابيرٍ محكمة وبلغةٍ أكثر تشذيبًا. هكذا يتقصّى الناس من الهندوسية السرّ الإلهي ويعبّرون عنه بخصب الأساطير الذي لا ينضب، وبالجهود الفلسفية الثاقبة، وينشدون التحرّر من ضيقات وضعنا، بواسطة أشكال الحياة الزهدية أو بالتأمّل العميق أو باللجوء الى الله بحبّ وثقة. وفي البوذية على مختلف أنواعها هناك اعتراف بنقص جذري لهذا العالم المتقلّب؛ وتلقن وسيلة يستطيع الناس بواسطتها، بنفس تقية مستسلمة، أن يحصلوا إما على حالة التحرر الكامل وإما أن يبلغوا الاستشراق السامي بجهودهم الذاتية أو يعضدهم عون من علُ. وعلى هذا المنوال تجتهد أيضًا سائر الديانات الموجودة في العالم كلّه في أن تجيب بطرق متنوّعة على قلق قلوب البشر، بعرضها السبل أي التعاليم وقواعد الحياة والطقوس المقدّسة. فالكنيسة الكاثوليكية لا ترذل شيئًا مما هو حقّ ومقدّس في هذه الديانات. بل تنظر بعين الاحترام والصراحة الى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، والى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من أنها تختلف في كثير من النقاط عن تلك التي تتمسك بها هي نفسها وتعرضها. ولذا فهي تبشّر وعليها أن تبشّر بالمسيح دون انقطاع، إذ إنه هو "الطريق والحقّ والحياة" (الإنجيل بحسب القدّيس يوحنا 14، 6) فيه يجد الناس كمال الحياة الدينية وبه صالح الله كل شيء. فهي تحثّ أبناءها على أن يعرفوا ويصونوا ويعزّزوا تلك الخيور الروحية والأدبية، وتلك القيم الاجتماعية والثقافية الموجودة لدى الديانات الأخرى، وذلك بالحوار والتعاون مع أتباع هذه الديانات بفطنة ومحبة وبشهادتهم للإيمان وللحياة المسيحية» (بيان "في عصرنا" [Nostra Aetate] حول "علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية"، بند 2).