طارق الشناوى

فلسطين هى العنوان انتقل (المسافة صفر) الصرخة السينمائية الوطنية الذى قدمه وأشرف عليه رشيد مشهراوى إلى أكثر من مهرجان، شاهدناه فى (كان) و(وهران) ومن المنتظر أن نرى تنويعات أخرى فى كل المهرجانات القادمة (الجونة) ثم (القاهرة)، وأتصور أيضا أننا سنمنح لبنان الجريح مساحات سينمائية موازية.

 

عشرات من الأفلام تناولت القضية الفلسطينية، ويظل أصدق وأعمق تلك الأفلام والذى تم عرضه مجددا فى قسم كلاسيكيات (وهران) فيلم (المخدوعون) للمخرج المصرى الكبير توفيق صالح، من إنتاج مؤسسة السينما السورية، الشريط السينمائى تم ترميمه قبل بضع سنوات.

 

الفيلم مأخوذ عن قصة (رجال فى الشمس) للكاتب الفلسطينى غسان كنفانى، أحداث الرواية تعود لنهاية الخمسينيات، ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة يريدون العمل فى الكويت ويختبئون داخل فنطاس عربة لنقل الماء، وعليهم أن يصمتوا ويتحملوا درجة الحرارة القاتلة، فى هذا السجن الحديدى حتى تنجح الحيلة، إلا أنه أثناء إتمام الإجراءات ينفد الأوكسجين، بينما نستمع كجمهور إلى ضربات أياديهم من الداخل تستغيث وبسبب الضجيج لا أحد يسمعهم، والدلالة التى أرادها توفيق صالح واضحة، الشعوب تشعر وتدرك ومن بيدهم الأمر لا يفعلون شيئا، وهى إضافة عميقة من المخرج للأصل الروائى، لعبت دورها فى وصول الرسالة.

 

ويلقى بهم السائق على الطريق كنفايات، وليس هناك من يكترث، وكأن هذا الفيلم يروى المأساة بعمقها فى الزمان وحتى الآن.

 

المخرج المصرى الكبير الراحل توفيق صالح، أحد أهم المبدعين عربيا فى دنيا الإخراج وأيضا أقلهم شهرة، رغم أنه مقدر جدا بين مبدعى السينما.

 

الأستاذ توفيق مثالى فى عالم متوحش، موهوب فى زمن يصعد فيه الأدعياء إلى القمة، عزوف ومترفع فى وسط يكرم فيه الإنسان بمقدار رصيده من الضوء.

 

لم أعرف توفيق صالح عندما كان يقف خلف الكاميرا مخرجًا منذ منتصف الخمسينيات، ولكنى اقتربت منه بمجرد عودته إلى مصر مطلع الثمانينيات، كانت تملؤه الرغبة للإبداع، دائمًا لديه مشروعات وأفكار متجددة، أتذكر من بينها القصة القصيرة لنجيب محفوظ «يوم قتل الزعيم» وتبدل على كتابة المعالجة الدرامية أكثر من كاتب كبير موهوب مثل صبرى موسى وبشير الديك، كان توفيق صالح يبحث عن شىء آخر مختلف لم يجده عند كاتبى السيناريو، وماتت تلك الفكرة ولا حقتها أفكار أخرى يتحمس لها ثم يخبو شغفه.

 

توفيق صالح الإسكندرانى مواليد ١٩٢٧ خريج (فيكتوريا كوليدج) مع رفيق الرحلة يوسف شاهين الذى سبقه فى الميلاد بعام، وسبقه أيضا إلى دنيا الإخراج السينمائى بأربعة أعوام، كانت بداياته مع فيلم (درب المهابيل) منتصف الخمسينيات تبشر بالكثير مع زعيم الحرافيش نجيب محفوظ، فهو صاحب موقف فكرى وسياسى وليس مجرد مخرج مبدع، وبعدها استمرت المسيرة مع «يوميات نائب فى الأرياف» و«المتمردون» و«صراع الأبطال» و«السيد البلطى» كان لديه طموح خاص فى طريقة السرد السينمائى، ولهذا التقى مثلًا بصلاح حافظ الصحفى الكبير فى سيناريو «المتمردون» لتجسيد هذا المذاق وبعد أن أنهى صلاح حافظ السيناريو، لم يكتف توفيق بهذا القدر، بل بدأ فى إضافة تفاصيل دقيقة تعبر عن رؤيته الإبداعية الخالصة، وهو قطعا ما تعارض مع رؤية صلاح حافظ.

 

كنت أقول له مشكلتك يا أستاذ توفيق أنك لا تريد أن تتنازل لتتواءم مع السوق السينمائية؟ يقول معقبا (أنا مرن ومدرك محددات السوق، ولكنى لا أستطيع أن أقدم سوى فقط ما أقتنع به). قبل أن يشد الرحال إلى سوريا، نهاية الستينيات، كان من المفترض أن يخرج ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) وبترحيب من نجيب محفوظ لمؤسسة السينما التى تملكها الدولة، وكان يرأسها فى ذلك الوقت المخرج صلاح أبو سيف، وبدأ توفيق مع فريق عمل من شباب معهد السينما فى كتابة السيناريو، وحدث خلاف حاد فكرى ومادى بين أبوسيف وصالح، ولم يستطع نجيب محفوظ أن يجد له حلًا برغم صداقته للطرفين، وتمسك توفيق بموقفه، وقرر أبوسيف نكاية فى توفيق إسناد الثلاثية إلى حسن الإمام، انتظر توفيق أن ينضم نجيب محفوظ إلى جانبه، ولكنه وقف على الحياد، وحدثت جفوة بين زعيم الحرافيش نجيب، وأصغر الحرافيش سنًا توفيق، طالت بضع سنوات، كانت الدولة فى ذلك الوقت هى المهيمنة بقسط كبير على الإنتاج السينمائى، ووجد توفيق نفسه فى خصومة مع آليات العمل فى مصر، ولهذا سافر إلى سوريا وتصالح مع نجيب محفوظ، بالمناسبة لم يتصالحا- توفيق وصلاح- حتى رحيل صلاح ١٩٩٦.

 

امتدت فترة إقامته فى دمشق، ليقدم فيلمه الأثير «المخدوعون» الحاصل عام ٧٢ على التانيت الذهبى فى (قرطاج)، كانت مؤسسة السينما السورية سياسيًا لديها بعض تحفظات تحول دون عرضه كاملا، إلا أن النسخة وصلت خلسة إلى تونس ليقتنص الجائزة، وشد توفيق صالح الرحال مجددا بعدها إلى بغداد وتلقى استدعاء من صدام حسين ليقدم الفيلم الذى يروى حياة صدام «الأيام الطويلة»، كانت لديه قناعة أنه يتناول الإنسان وليس الأسطورة، إلا أن السلطات العراقية أرادته أسطورة، وحكى لى أنه فى مشهد يتلقى صدام رصاصة أثناء هروبه، وبينما تجرى له جراحة لنزع الرصاصة بدون بنج، قدم توفيق صالح لقطة لصدام وهو يصرخ ألما فما كان من صدام سوى أن شكل لجنة، وأحضر الطبيب الذى أجرى الجراحة، وأقسم الطبيب أن صدام لم يصدر عنه ولا مجرد همهمة أثناء إجراء الجراحة، وتم حذف اللقطة.

 

عاد للقاهرة بعد رحيل أنور السادات ولديه آمال عريضة تبددت تباعا، اقتربت كثيرا من الأستاذ توفيق صالح على مدى تجاوز ١٠ سنوات، كنا فى لجنة المهرجانات التى تختار الأفضل للترشيح لتمثيل السينما المصرية فى المهرجانات، كان توفيق كعادته مثاليًا فى بحثه عن الفيلم اللائق بتمثيل مصر، وكنت أنا وعدد من الأعضاء مثل الناقدين الكبيرين على أبوشادى وماجدة موريس وكاتب السيناريو عبدالحى أديب ومديرى التصوير محمود عبدالسميع وعلى الغزولى نحاول أن ندفع ببعض الأفلام التى نلمح فيها إمكانية أن تمثلنا، وكثيرًا ما اختلفنا مع الأستاذ توفيق، وتنتهى الجلسة بعد الشد والجذب أن أوصله بسيارتى إلى بيته بالقرب من ميدان الجيزة وأقتنص منه فى هذه الرحلة الكثير من حكايات الزمن الذى لا يزال نابضا بالحياة، أغلبها مع الأسف غير صالح للنشر.

 

من أحب تلاميذه إلى قلبه والأقرب إليه فنيا وإنسانيا داود عبد السيد وعلى بدرخان، ومن الجيل التالى أحب سينما شريف عرفة، ومن المخرجين الكبار عز الدين ذوالفقار، وكان يراه أصدق وأرق مخرج عرفته السينما المصرية، أما أفضل مخرج على الإطلاق فى الإيقاع البصرى والحركى فهو يوسف شاهين وإن كان لديه تحفظات على الأفكار التى تحملها أفلامه بسبب سذاجتها.

 

والمرة الوحيدة التى وافق فيها على الوقوف أمام الكاميرا ممثلا فى فيلم (إسكندرية كمان وكمان) إخراج يوسف شاهين، لأنه تناول موقف الفنانين ضد سعد الدين وهبة بسبب قانون (١٠٣)، وكان توفيق أحد زعماء الاعتصام نهاية الثمانينيات، رغم أنه صديق مقرب، وأيضا كان من المفترض أن يصبح شاهدا على زواجه من سميحة أيوب، إلا أن سعد وسميحة تزوجا فى الصباح وكان الاتفاق مع توفيق أن يشهد العقد فى المساء، صداقته بسعد لم تمنعه من الوقوف على الجانب الآخر.

 

 

تلك الإطلالة على (المخدوعون) فى (وهران) أراها فرصة لكى نستعيد معا سيرة مخرج كبير، لم نمنحه ما يستحقه، بينما أراه دائما مكرما وعن جدارة فى المهرجانات العربية!!.

نقلا عن المصرى اليوم