خليل فاضل

قد تصحو من نومك مفزوعًا أو منهكًا أو متفائلًا، أو أن تضحك وأنت نائم فتوقظك زوجتك لتسألك: «لمن تضحك يا حبيبى؟»، أو أن يصحو آخر من نومه على خبر خسارة كل أسهمه فى البورصة، أو بنوبةٍ قلبية لا قدر الله، أو على زغرودةٍ فى البيت المجاور، لأنهم رزقوا بولد.. وما أدراك ما الولد وهو صاحب الأربع بنات، وقد تستيقظ ناظرًا فى المرآة لتجد رأسك وقد اشتعل شيبًا، ومن يجرون مهرولين بملابس النوم إلى الشارع مع الناس كلها، لزلزالٍ أصاب المكان والزمان فى بلدٍ ما.

 

قرأت بوستًا على الفيسبوك: «قال ماركيز.. حين قرأ السطر الأول من رواية (التحول) لـ(فرانز كافكا).. (لقد سقطت من الفراش، لقد كنت مندهشًا، وقلت لنفسى إنى لا أعرف أى شخص باستطاعته كتابة أشياء كهذه»، لِمَ هزَّت هذه الافتتاحية كاتبًا بحجم «ماركيز؟ تقول الافتتاحية: «عندما استيقظ (جريجور سامسا) من نومه ذات صباح، عقب أحلامٍ مضطربة، وجد نفسه قد تحوَّل فى سريره إلى حشرةٍ عملاقة».

 

صَحت «سيتا» فى الهند من نومها، بعد أن علمت بخطيئةٍ ما قد حدثت فى أُسرتها، والـ«سيتا» تعنى باللغة السنسكريتية «الخطيئة»، لم ترد أن تخوض فى العرض، فأبت على نفسها أن تبوح لأحد، وأكلت الأرز باللبن، وكتمت مشاعرها وسافرت عبر الطريق مهاجرةً، لتنقلب من هندوسية إلى طائفة السيخ، اعتمرت بعمامتهم فى هيئةٍ قريبةٍ إلى الرجال، لتصبح نظرتها حادة، وتحوّل بؤبؤا عينيها إلى كرتين من الزجاج المنحوت بقسوة.

 

اختفت البراءة تمامًا، أما شعرها الناعم المُنسَدِل على كتفيها فلقد اخشن وانتفض إلى أعلى، وأصبح وجهها كوجه مقامر، لا ابتسامة ولا غضب ولا حزن، ولا ألم ولا انفعال ولا شىء، ولما طلبت المعونة من شيخ السيخ، همس فى أذنها حتى كادت تحترق، إنها عقدة الهجران والتَخَلِّى والقطيعة، لقد تخلّى عنكِ كل من كان مفترضًا أن يرعاك.. أمك وأبوك وأخوك وحبيبك، وصديق الطريق الذى التقيت به عرضًا، عندئذٍ خلعت العمامة ووضعتها إلى جانبها، وغنَّت بصوتٍ أجش «هجرتك يمكن أنسى هواك»، غنتها وكانت قد سمعتها فى زمن ما، ربما من خادمةٍ هندية كانت تعمل فى إحدى الدول العربية، ضحك شيخ السيخ وقال لا ليس الأمر بهذه الطرافة، إنها مسألةٌ معقدةٌ للغاية، وفى بطنها بحورٌ كثيرة، مُتّسعة تضيق فى النهاية إلى مآلاتٍ يصعب تصديقها.

 

وعلى صعيدٍ آخر، فإن صدمة الهجر والنبذ لدى الأطفال والبالغين، تشكِّل فى الحروب والكوارث منعطفًا خطيرًا، فالاختفاء القسرى وبالموت وبالعجز وبالغرق، يمثِّل صدمةً قاسية تترك ندوبها فى الذاكرة الانفعالية، وتحفر على العَظْم علاماتٌ يستحيل نسيانها أو غضّ الطرف عنها.

 

إن الصدمة استجابة انفعالية ونفسية، لحدثٍ سلبى محزن أو مزعج أو مؤلم، وتنتج عن تجربة، أو تذكُّر أو إدراك لأى نوع من التخلى، قد يكون مؤلمًا للغاية بالنسبة لك، قد يكون مرتبطًا بحالاتٍ شعرت فيها بالإهمال أو التهديد أو التخلف عن الركب.

 

وعندما يتعلق الأمر بالصدمة، فإن الحدث نفسه قد يكون طفيفًا، كخسران درجة الترقّى فى العمل، لكن ردّة فعلك قد تكون هائلة، لما علّقْته من آمالٍ كبار على هذا الموضوع.

 

فى أثناء الطفولة، قد لا تكون أحداث الهجران تلك متعمَّدة، ومع ذلك، فنظرًا لإمكاناتِ الأطفال الانفعالية والمعرفية المحدودة، قد يفسر الطفل بعض المواقف على أنها قطيعة، ويتعامل معها على أنها أحداث مؤلمة، وقد يكون للهجر العاطفى أيضًا تأثيرٌ كبير على الناس، مثل أن تنشأ مع أب منفصم عاطفيًا.

 

إن الشفاء من الصدمة ممكن، بغضّ النظر عن الحادث الصادم الذى تعرّضت له، وحتى إذا تعرضت لضغوط صدمةٍ طويلة الأمد، لكن التعافى من الصدمة عملية معقدة، ومن المستحسن للغاية أن تسعى للحصول على دعم إخصائى الصحة العقلية، كما يجب على الأفراد طلب المساعدة، عندما تضعف صدمة التخلى من قدرتهم على إدارة وظائف الحياة اليومية، والاعتناء بأنفسهم، والحفاظ على علاقاتٍ صحية بالآخرين، والتحرر من آثار الصدمة واستعادة القدرة على الفرح.

 

 

دمج فرويد ولاكان فى صيغهما التحليلية النفسية والفلسفية مفهوم التخلِّى، أى التحول فى الإنسان، إما بالانتقال إلى حالةٍ أكثر نموًا ونضجًا نفسيًا، أو التراجع إلى حالة متخلفة، أو استجابة للأحداث السياسية والتاريخية التى وقعت، كما الحال الآن فى غزة والضفة ولبنان.

نقلا المصرى اليوم