حسام بدراوي
فى عصرنا الحالى، نجد أن ثقافة التفاهة بدأت تفرض نفسها بشكل غير مسبوق على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، الثقافية، والإعلامية. يُمكن تعريف التفاهة بأنها التوجه نحو الأمور السطحية، الخفيفة، والمفرغة من القيمة الحقيقية، إذ تميل نحو اللاجدية وترك القضايا العميقة والموضوعات المهمة جانبًا لصالح ما هو سهل ومُستهلك. هذه الظاهرة ليست مجرد صدفة عابرة؛ بل أصبحت تشكل جزءًا من الحياة اليومية لكثير من البشر.
إن أسباب انتشار التفاهة كثيرة أهمها هو تعدد وانتشار وسائل الإعلام المرئى ومواقع التواصل الاجتماعى التى أدّت إلى تحول التركيز من المحتوى العميق إلى الترفيه السريع والمختصر. يفضل الكثيرون استهلاك الفيديوهات القصيرة والمحتويات السطحية التى لا تتطلب تفكيرًا عميقًا.
منصات مثل إنستجرام وتيك توك أصبحت تمجد البساطة الفارغة على حساب المعرفة والتحليل بالرغم من إمكانية استخدامها لتعميق الثقافة من جانب آخر وهناك بعضها يقوم بذلك.
أضيف إلى ذلك الرغبة فى الشهرة السريعة حيث أصبح النجاح السريع هدفًا يسعى له كثير من الأفراد، وخاصة الشباب. فى عصر وسائل التواصل، يمكن لأى شخص أن يكتسب شهرة عابرة دون الحاجة إلى مهارات أو إنجازات حقيقية. يكفى أن تقدم محتوى سطحيًا أو مثيرًا للجدل حتى تجذب المتابعين وتحقق انتشارًا.
هل فعلا الانتشار على السوشيال ميديا حقيقى؟!، بالقطع لا ولكنه انتشار له صوت عال وإلا كانت دراسات استطلاع الرأى قد أخذت به. العلم يستلزم عينات ممثلة للمجتمع حتى تصبح لها قيمة وهو غير متوفر فى الترندات.
فى بعض المجتمعات، باتت الأنظمة التعليمية تركز على النتائج السريعة والمهارات الوظيفية على حساب التفكير النقدى والتفاعل مع الأفكار العميقة ويُهمل تعليم الشباب قيم البحث والاستقصاء، مما يؤدى إلى نشوء أجيال تفتقر إلى العمق الفكرى.
فى ظل العولمة وانتشار التنافسية، يشعر الكثيرون بالضغط لمواكبة التوجهات الشعبية والمحتويات الرائجة. من السهل أن يُستدرج الفرد إلى محتوى تافه لمجرد الانتماء إلى الجماعة أو الخوف من التفرد والاختلاف.
عندما تصبح التفاهة هى المعيار السائد، يقل الميل لدى الأفراد لممارسة التفكير النقدى والتعمق فى القضايا. يفضلون التلقين السريع والآراء السطحية دون أى محاولة للفهم أو التحليل.
وينتج عن انتشار التفاهة تراجع فى مستوى الحوار الثقافى والمجتمعى. بدلًا من مناقشة القضايا الجوهرية مثل العدالة، والحرية، والتنمية، ينشغل الناس بالقضايا الهامشية والفضائح والمحتويات الترفيهية التى لا تضيف شيئًا إلى الوعى الجماعى.
يتسبب الانتشار الواسع لثقافة التفاهة فى تآكل الهوية الثقافية للمجتمعات. عندما يتجه الناس نحو تقليد النماذج السطحية والاستيراد العشوائى للقيم الغربية الرائجة، يضعفون الروابط مع تراثهم وقيمهم الأصيلة.
ترتبط التفاهة أيضًا بالنزعة الاستهلاكية، حيث تشجع الأفراد على الانشغال بالمظاهر والمواد الفارغة التى تروج لها الصناعات الثقافية والترفيهية. يصبح الشخص مجرد مستهلك للمنتجات والمحتويات، بعيدًا عن أى نوع من الإبداع أو الإنتاج الفكرى.
هل هناك كيفية للتصدى لثقافة التفاهة؟
نعم.. ولكنها تحتاج لقيادات سياسية واجتماعية عندها العمق الثقافى لتفهم خطورةً التفاهة وانتشارها. بالعقل يمكن للأنظمة التعليمية أن تلعب دورًا كبيرًا فى مواجهة التفاهة عن طريق تعزيز مهارات التفكير النقدى والتشجيع على القراءة والبحث العلمى. يجب أن تكون الحياة المدرسية والجامعية مشجعة على الاستقصاء والفضول الفكرى والمشاركة المجتمعية والرياضة والفن والتشجيع على الحوار العميق.
ويمكن لوسائل الإعلام أن تسهم فى ذلك من خلال تقديم برامج ثقافية وتوعوية تتناول قضايا فكرية واجتماعية بعمق.
إن دعم الفنون والآداب والإنتاج الثقافى الذى يهدف إلى تقديم رؤى وتحليلات عميقة حول المجتمع والإنسانية يمكن أن يشكل بديلًا مهمًا للمحتويات السطحية التى تسود الساحة الإعلامية.
ويمكن لكل فرد أن يساهم فى التصدى لثقافة التفاهة بنفسه عن طريق التحكم فى المحتوى الذى يستهلكه. بدلًا من متابعة المحتويات السطحية والمستهلكة، يمكن الاتجاه نحو ما يغذى العقل ويسهم فى بناء المعرفة.
إن انتشار ثقافة التفاهة يشكل تحديًا حقيقيًا للمجتمعات الحديثة، حيث يضعف من جودة الحوار الثقافى ويعزز السطحية فى التفكير والسلوك. لا بد من أن نسعى جميعًا لتغيير هذا الواقع من خلال التركيز على العمق الفكرى والإنتاج الثقافى الهادف، والابتعاد عن الاستسلام للإغراءات السطحية التى قد تبدو مغرية على المدى القصير ولكنها فارغة من أى قيمة حقيقية.
فى هذا الإطار كتب لى صديقى د. رؤوف رشدى رسالة رائعة بعنوان: «مقال تافه جدا»
يقول فيه:
لا تستطيع أن تستيقظ فى الصباح وتقول لنفسك: من هنا ورايح أنا حابقى تافه..
ذلك صعب جدا.. صدقنى فالتفاهة ليست اتجاها. التفاهة أسلوب حياة. يجب أن تعيشه منذ نعومة أطافرك. ومن استمتع بالسباحة على الشاطئ سوف يمل كثيرا من الغوص فى المياه العميقة. إنها باختصار توقف للنمو العقلى والعاطفى عند سن الخامسة فى مرحلة ما قبل المدرسة. تظن أن عليك أن تكون غضوبا عصبيا عنيفا سطحيا عشوائيا مظهريا لكى تستطيع دخول عالم التفاهة السحرى. ولكن هذا أيضا قد لا يجدى نفعا فالتفاهة فى الأصل موهبة وتحتاج إلى صقل مثل باقى المواهب. يجب أن يكون لديك الاستعداد الفطرى لأن تكون إمعة. إنه الحس التلقائى النبيل لاختيار مصادرك العبيطة للمعرفة. قد يجدى نفعا أيضا كره القراءة ومقاطعة البشر ذوى العمق الفكرى وتجنب أى مناقشة منطقية ولكن تبقى الموهبة الأساس الأول.
التفاهة فن. إى والله. فالتافه شخص أنفق جل حياته لتجويد وتلميع تفاهته. وأضاف لمسته الخاصة إلى عبطه وأنماطا فريدة فى تفسير هبالته وأحاط نفسه بطقوس ثابتة لإضفاء جدوى لازمة إلى هطلانه.
تيجى إيه إنت جنب واحد دايما بيجى فى الهايفة ويتصدر منذ أن كان صغيرا تافها بحكم السن.
المعجزة تكمن فقط فى أن تحرص ألا يكبر عقلك. والسر السهل الممتنع أن تمتنع آلياتك العقلية عن التراكم الإدراكى لكى تضمن ثبات سلوكك العبيط.
أرأيت كم يتعب الشخص التافه؟
أنت إذًا لا تصلح لأن تكون مثله لأنك ببساطة تفكر فى أن تكون تافها بطريقة عميقة.
أين لك بالسطحية التى يصل بها التافه إلى قرارته؟، أين لك بإعجابه بنفسه؟ وولعه بنصاعة تفكيره؟.
وأنت شكاك ناقد لنفسك كل الوقت. أفنيت عمرك مع ديكارت ونيتشه وشوبنهاور.
التافه يا رجل هو شخص تعمق كثيرا فى السطحية ويمتلك آليات حاسمة مؤكدة لا تقبل الشك فى تفكيره. والمسافة بين مداخل إداركه ومخارج قراره أقصر مما قد يصل إليه إدراكك الحلزونى المعقد.
انسَ إذًا أن تكون تافها، فهى فكرة تافهة، خليك عميق، واشق فى النعيم بعقلك
ولا تحقد على التافه الذى هو فى الشقاوة ينعم.
ويقول الكاتب الكندى آلان دونو فى كتابه الشهير «نظام التفاهة»:
«إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم فى هذه الأيام، لقد تغير الزمن زمن الحق والقيم، ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شىء، بكل تفاهتهم وفسادهم؛ فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقيمًا؛ إنه زمن الصعاليك الهابط. وكلما تعمق الإنسان فى الإسفاف والابتذال والهبوط ازداد جماهيرية وشهرة. إن مواقع التواصل نجحت فى ترميز التافهين، حيث صار بإمكان أى جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات عامة، هى أغلبها منصات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنا بأى منتج قيمى صالح لتحدى الزمان»!!.
لقد أصبحت ثقافة التفاهة تسيطر على الحياة اليومية للبشر وتأخذ من جهد عقولهم الكثير، فتجد الناس يقضون أغلب ساعات أعمارهم فى جدال ونقاش وخصام أحيانا حول أجمل قميص وأفضل حذاء رياضى وآخر صيحات الموضة الرجالية والنسائية والشبابية وأجمل طلة يمكن أن تقدم بها نفسك للناس وأجمل بقرة وأفضل ثور. إن التافهين أصبحوا قدوة للأجيال القادمة حتى أصبح العالم مهددا بتأبيد سلطة التفاهة.
حكمة هذه الأيام:
«ألا أيها التافهون تقدموا وتناموا، هذا هو عصركم وهذه هى أيامكم».
ويا أيها النابهون تقهقروا وتداروا إن التفاهة ليست فقط غالبة، لا بل إنها أيضًا.. مُعدية.
« لكل داءِ دواء يستطب به إلَّاالـ (حماقة/ تفاهة) أعيَّت من يداويها».
لا تستهينوا بالتفاهة لأنها ستستوعب الجميع إن لم نقف أمام مدها.
نقلا عن المصرى اليوم