القمص يوحنا نصيف
معروفٌ أنّ بنوّتنا لله هي بنوّة حقيقيّة بالتبنّي، وليست بنوّة اعتباريّة.. فما هو الفرق؟
التبنّي هو أن يتّخِذَ شخصٌ طفلاً ابنًا له، وهو في الأصل ليس ابنًا من صُلبِهِ؛ فهو لم يكُن من العائلة، وليس مولودًا له بالجسد، ولكنّه بالتبنّي يصير ابنًا رسميًّا له، وبالتالي عضوًا في العائلة. وطبقًا لهذا، يصير للمُتَبَنَّى اسم جديد وكافّة الحقوق والكرامة والميراث.. بمعنى أنّي لو تبنّيت طفلاً يصير ابنًا رسميًّا لي؛ فأعطيه اسمي واسم عائلتي، ويعيش في بيتي، ويأكُل على مائدتي، ويكون له كلّ حقوق البنوّة من حُبّ ومشاركة وميراث!
أمّا البنوّة الاعتباريّة، فلن تزيد عن الاهتمام والمحبّة والتقدير لشخص أعتبره مثل أبنائي، ولكنّي لا أعطيه اسمي ولا يشاركني في حياتي ولا ممتلكاتي!
من هنا نفهم أنّ نعمة التبنّي الموهوبة لنا من الله هي نِعمة نصير بها نحن العبيد أبناء، وهي هِبة مُتاحة لكلّ من يَقبل المسيح إلهًا ومخلِّصًا ومَلِكًا له، بحسب قول الإنجيل: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ وُلِدُوا." (يو1: 12-13). وهذا يتمّ طبعًا بالإيمان والمعموديّة.. فبالمعموديّة نولَد من جديد، ونتّحد بالمسيح على مثال موته وقيامته، ويتمّ غرسنا في جسد المسيح، فنصير أبناء لله في المسيح ابنه الوحيد.. حينئذ يقول لنا الله: "كلّ ما لي فهو لك" (لو15: 31)!
يؤكِّد لنا هذا المفهوم القدّيس بولس الرسول مَرّاتٍ عديدةً، عندما يقول: "لَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ.. بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ" (أف2: 19).. "إِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ." (رو8: 17).. "إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا، وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللهِ بِالْمَسِيحِ." (غل4: 7).
يتغنّى أيضًا القدّيس كيرلّس الكبير بنعمة التبنّي، في شرحه لإنجيل يوحنّا (يو1: 12-13)، فيقول:
الابن وحده هو الذي يُعطِي ما يخصّ طبيعته، ليصير خاصًّا بهم (المؤمنين به)؛ جاعِلاً ما يخصّه مشتَرَكًا وعامًّا بينهم.. لأنّنا عندما نشترك فيه بالروح القدس، نُختَم لنكون مثله..
إذن نحن نرتفع إلى كرامة أسمى من طبيعتنا، بسبب المسيح، لأنّنا سنكون أيضًا أبناء الله. ليس مثله تمامًا، بل بالنعمة وبالتشبُّه به. فهو الابن الحقيقي، الكائن مع الآب منذ الأزل، أمّا نحن فبالتبنّي بسبب تعطّفه، ومن خلال النعمة التي أخذناها.
إذن هو الابن بالحقّ والطبيعة، ونحن صرنا به أبناء أيضًا، وننال الخيرات بالنعمة، دون أن تكون هذه الخيرات هي من طبيعتنا.
إنّهم أخذوا السلطان من الابن لكي يكونوا "أولاد الله" فنالوا ما لم يكُن لهم من قَبْل، بواسطة "نعمة التبنِّي". وبدون أيّ تشكُّك يُضيف "وُلِدوا من الله"، لكي يوضِّح عِظَم النعمة التي أُعطِيَتْ لهم، ويجمع ذلك الذي كان غريبًا عن الله الآب (الإنسان)، ليُدخِله في قرابة الطبيعة معه، ويرفع العبد إلى كرامة سيّده، بواسطة محبّة الرب القويّة للإنسان.
هذا يجعلنا نرتفع من رتبة العبوديّة إلى البنوّة. وبالاشتراك الحقيقي في الابن، دُعِينا إلى أن نرتفع إلى كرامة الابن.. نحن مستحقّون بالإيمان بالمسيح أن نكون شركاء الطبيعة الإلهيّة، ومولودين من الله، ومدعوّين آلهة.. إنّه نزل إلى مستوى العبوديّة، دون أن يفقد ما يخصّه كإله. بل مانحًا ذاته لنا، لكي بفقره نصير أغنياء (2كو8: 9)، ونرتفع إلى فوق إلى شَبَهِهِ، أي شَبَهِ صلاحِهِ، ونصير آلهةً، وأبناءَ الله بالإيمان.]
إن كانت نعمة البنوّة ترتقي بنا نحن المخلوقات الضعيفة إلى هذه الدرجة والكرامة العظمى، فهُنا يلزمنا بالتأكيد أن نتعامل مع الله على هذا الأساس؛ فمثلاً:
التوبة هي الرجوع لحضن أبي، والتمتُّع بأحضانه وقبلاته، واستعادة الشركة الكاملة معه؛ فأسكُن معه في بيته، وآكل من خبز البنين على مائدته، وأفرح معه (لو15).. وأكره الخطيّة التي تجرحه!
وإن كان فيّ عيوب، فلن ينجح الشيطان في إقناعي بأنّي مكروه من الله لسبب عيوبي.. فالله هو أبي وأنا ابنه، واسمه دُعِيَ عليّ، وهو يحبّني جدًّا.. اشتراني بأغلى ثمن، ولن يفرِّط فيّ.. وروحه يعمل فيّ بقوّة، لكي يُنَقّيني ويُجَمِّلني لأصير مشابهًا لصورة ابنه الوحيد، وأنا بدوري مهما كنتُ ضعيفًا، سأجاهد في طريق التوبة، متجاوبًا مع عمل روحه القدّوس في داخلي.
أمّا عن سلوكيّاتي وسط الناس، فيلزمني أن أكون مُنقادًا بروح أبي (رو8: 14)، مُكمِّلاً القداسة في خوف الله (2كو7: 1).. مهتمًّا بعمل الصلاح كلّ حين، حتّى عندما يرى الناس أعمالي الحسنة يمجّدون أبي الذي في السموات (مت5: 16). فلا ينبغي فقط أن أفتخر ببنوّتي لله، بل أسعى أنّ أبي يفتخر بي أيضًا، ويقول عنّي: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ!
وبخصوص مستقبلي، فإنّه ليس لي هنا على الأرض مدينة باقية (عب13: 14)، بل لديّ وطن أعظم بكثير، إذ أنتمي إلى مدينة سماوية وملكوت مجيد هو ملكوت أبي.. ولي ميراث لا يَفنَى ولا يتدنّس ولا يضمحل محفوظ لي في السماوات (1بط1: 4). لذلك لن أضع رجائي في هذا العالم، ولن أدخل أبدًا في صراعات من أجل مكاسب أرضيّة!
وأخيرًا، إن كان الله قد أعطاني نعمة التبنّي له، لأكون عضوًا في جسد ابنه، وشريكًا لطبيعته الإلهيّة، وسفيرًا له في هذا العالم (2كو5: 20).. فيلزمني أن أشهد له بكلّ قوّتي في أفعالي وأقوالي، وأُكرِم وصاياه فوق كلّ اعتبار، كارزًا بمحبّته وخلاصه وملكوته.