بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر

أورشليم مدينة السلام

حيث سيغلب السلام، تنتهي الحرب. وعندما يغلب السلام، فستغلب تلك المدينة التي تُدعى رؤية السلام (أورشليم). إن لم يرتفع قلب المؤمن إلى صهيون السماوية، ويختبر عربون الحياة في أورشليم، لا يقدر أن يقدم تسبيح لله، وأن يوفي نذور الشكر له.

    تحدث القديس أغسطينوس في تفسيره لهذا المزمور، بأنه يخص الشعب الذي نُقل إلى بابل أسيرًا، وينتظر تحقيق وعود الله كما جاء في إرميا بالعودة بعد 70 سنة من السبي (إر 25: 11؛ 29: 10). أمام الإنسان أحد اختيارين: إما أن يسكن في أورشليم التي تعني رؤية السلام أو في بابل ومعناها ارتباك.

    يقول القديس أغسطينوس: [محبتان تقيمان هاتين المدينتين، محبة الله تقيم أورشليم، ومحبة العالم تقيم بابل... الآن لنسمع يا إخوة، ونُسَبِّح، ونشتاق إلى تلك المدينة التي نحن مواطنون فيها].

   ويقول أيضا القديس أغسطينوس  "ولك يوفى النذر" ، في أورشليم. فإننا سنكون هناك كاملين، أي نكون في قيامة الصديقين كاملين.
هناك يوفى كل نذرنا، ليس من جهة النفس وحدها، بل والجسد أيضًا، لا يعود بعد قابلاً للفساد، لأنه لا يعود بعد ليكون في بابل، بل يصير الآن جسدًا سماويًا ويتغير...

"يسكن في ديارك"، أي في أورشليم، الذين يسبحون لكي يبدأوا في الخروج من بابل.

"ليسكن في ديارك. لنشبعن من خير بيتك".

 ويذكر ايضا القديس أغسطينوس: يا لكثرة الخيرات التي تملأ البيت. يا لفيض الأثاثات التي يُجهز بها، وضخامة عدد الأواني الذهبية والفضية أيضًا. كم من خيول وحيوانات، وباختصار يا لكثرة ما يبهجنا به البيت من لوحات ومرمر وأسقف وأعمدة ودواليب وحجرات... مثل هذه بالحقيقة أمور مطلوبة، لكنها لا تزال موضوع ارتباك بابل. لتقطع كل هذه المشتهيات يا مواطن أورشليم، اقطعها، إن أردت أن ترجع، لا تدع السبي يبهجك.

لكن ألست بالفعل أردت أن تخرج منه؟ لا تنظر إلى الوراء، لا  تتلكأ في الطريق. هناك (في بيت الله) لا يوجد أعداء يزكونك في السبي والرحيل. ليس بعد من يقفون ضدك بأحاديث الأشرار. فإن بيت الله يشتاق إليك. لا تشتهِ مثل هذه الأمور التي اعتدت أن تطلبها سواء في بيتك أو في بيت قريبك أو في بيت نصيرك. هيا يا مواطني أورشليم الذين في داخل الشباك، وأنتم سمك صالح، احتملوا الأشرار فإن شباككم لا تتمزق. أنتم معهم في البحر، لكنكم لن تكونوا معهم في ذات الأوعية. فإنه ذاك الذي هو "رجاء جميع أقاصي الأرض"، هو نفسه رجاء "البحر البعيد".

بالجهاد يحل السلام
إذ تمتع يهوذا بأورشليم الملتهبة بنار الروح القدس لا يتوقف عن الجهاد الروحي بل ينزل "لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل". هكذا ينزل من أورشليم المدينة المرتفعه حوالي ٢٥٩٣ قدمًا ليحارب "الكنعانيين" التي تعني "الهياج"، فلا يستطيع من يملك أورشليم أن تكون له "رؤية سلام" أو أن يحتمل الهياج الداخلي للقلب خلال الخطية بل يحاربه حتى يكون له السلام الفائق في المسيح يسوع.

       فى هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم  : عندما يتحدث الكتاب المقدس عن كارثة لا علاج لها، لا يتحدث عن اناء الفخاري (الذي لم يدخل الفرن بعد) بل عن الإناء الخزفي. عندما أراد الله أن يعلم نبيه واليهود أن المدينة قد سُلمت إلى دمارٍ لا علاج له، أمره أن يأتي بإبريق خزفي ويكسره أمام كل الشعب ويقول: "هكذا أكسر... المدينة".

    القديس جيروم : عندما سمع النبي هذا لم يرفض، لم يقل على مثال موسى: أسألك يا رب، إني لست مستحقًا، أرسل آخر.

إذ كان محبًا للشعب ومفكرًا في الأمم المعادية أنها تُقتل وتسقط بشرب الكأس، قبل كأس الخمر بفرح، ولم يعلم أن أورشليم كانت من بين كل الأمم.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ينطق بهذه الأمور ليُظهِر اننا نحن الذين بدأنا بالهجر، وهذا يسبب هلاكنا. لا يشاء الله أن يتركنا أو يُعاقبنا بل وأن عاقب يفعل ذلك (كما) لا إراديًا، إذ يقول: "لا أشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا" (حز 18: 32 الترجمة السبعينية). يبكي يسوع على هلاك أورشليم كما نفعل نحن على أصدقائنا.

في كنعان تعتمد الزراعة على الأمطار في مواسم معينة، ليس في سلطان الإنسان أن يتحكم فيها. لهذا فإنه كل أمة لا تصعد إلى أورشليم لتسجد للملك رب الجنود يحل عليها غضب الله وتُنزع عنها البركة، وقد رُمز لذلك بالحرمان بالمطر، إذ قيل في زكريا النبي: "ويكون أن كل من لا يصعد من قبائل الأرض إلى أورشليم ليسجد للملك رب الجنود لا يكون عليهم مطر؛ وإن لا تصعد ولا تأتِ قبيلة مصر ولا مطر عليها تكن عليها الضربة التي يضرب بها الرب الأمم الذين لا يصعدون ليعيدوا عيد المظال" (زك 14: 17-18).