عادل نعمان
.. ولا تقف دعوة إقامة الدولة الدينية عند هؤلاء القوم على أبواب الفقهاء أو اجتهاد المجتهدين أو قياس أصحاب الشأن عن فترة النبوة أو الخلافة الراشدة، بل تتجاوز عندهم كل هذه الخطوط إلى أنها مشروع من عند الله يتخطى الحدود والأزمنة، بل هو تكليف إلهى للمسلمين جميعًا يسعون إليه اليوم وغدًا.. بدأت عند دويلة الرسول فى المدينة وتنتهى عند دولة الأمة الإسلامية الكبرى، حتى لو كانت تحت مظلة طالبان أو داعش، ولو قامت على غزو الغير وعلى أشلاء وجماجم الملايين، ولو عاشت فيها الرعية دون كساء أو غطاء أو طعام أو شراب، ولو زرعوا الأفيون أو تاجروا فى الأعضاء البشرية والآثار، ولو تقاتل المسلمون بعضهم بعضًا وقُتل منهم أكثر ممن عاش، المهم أن يكون للدولة الدينية موضع ومكان تحت الشمس.
والجدير بالذكر أن هذه الدعوة تعتمد عندهم على أفضلية الدين واستعلاء أهله، وتزكية المنتسبين إليه وتميزهم وتفوقهم على غيرهم من بنى البشر، مصطفين ومنتخبين ومجتبين من الله لهذه المهمة الثقيلة دون غيرهم من الديانات الأخرى، أجاز لهم الله قتل غيرهم والاعتداء عليهم ونهبهم وسلبهم وتشريدهم لإقامة الدين الحق ونقل هذا المشروع الإلهى إلى الأرض على أسس من العدل والسلام والمحبة!! على أن هذا التناقض المخالف تمامًا لمنهج النبوة والمتصادم والمتخاصم تمامًا مع شرائع الله- لا يجد قبولًا ورضا عند هؤلاء فقط بل هم فى حالة إنكار دائم لما يفرضه العقل والواقع المتغير وزمان النص ومكانه وخصوصية الحكم، ولا ينتبهون للنتائج والتداعيات المهلكة، فلا نبوة على ظلم، ولا رسالة تخالف محبة الله، ولا دعوة حق دون خير وسلام، ولا شرائع تخالف العقل هبة الله لخلقه.
ولا غرابة عند هؤلاء القوم إذا اقتربوا ولمسوا وتيقنوا من فشل هذا المشروع على مر الزمان، وتأكدوا إذا ما قارنوا بين الأمم المتقدمة وما حققته للبشرية من نمو وازدهار ومعرفة وتقدم علمى ورفاهية وبين ما وصلنا إليه من تأخر وتقهقر وتخلف، على أنها فى صالح هذه الأمم التى تأخذ بأسباب العلم وتنشغل بأحلام شعوبها واحتياجاتهم دون اعتبار لغيره، فلا أفضلية إلا لمن كان جادًّا ومجتهدًا، ولا خير يُرجى إلا من الذين يأخذون بأسباب العلم والعمل، ولا تمييز فى هذه الدول إلا للمتفوقين والمجتهدين، ولا ولاء إلا للوطن ولا براء إلا من الذين يخالفون القانون وحقوق المواطنة دون النظر إلى عقيدته ودينه.
ولا ترى إفكًا أو بهتانًا يتفوق عليه هؤلاء إذا ما لجأوا إلى اتهام الرعية بالبعد عن منهج الله ودينه، وإعراضهم عن شريعته، وعدم الانقياد والإذعان لأوامره والقبول بأحكامه، وأن انهزاماتهم وانكساراتهم وجهالتهم وفقرهم هى نتاج هذا البعد وهذا الإقصاء، وأن بركات السماء والأرض قد ضاقت على خير أمة أُخرجت للناس لانفصالهم وافتراقهم عن تقوى الله وإيمانهم الصادق بما نزل من عنده، ولم يقف الأمر عند هذا فقط بل تعداه إلى اللوم والتأنيب والتقريع المتكرر الذى يجلد به المسلمون ذواتهم بأيديهم حزنًا وهمًّا على تقصيرهم فى حق الله، فما كان منهم إلا الغلو والتجاوز والإسراف فى طلب العفو والرضا والقبول من الله، فزادوا شططًا كلما بحثوا عن المغفرة، وتجاوزوا فى تطرفهم وتشددهم كلما حاولوا الابتعاد عن غضب الله، فكانت هذه المبالغات والإغراقات المفرطة فى الغيبيات، ومن ثم الإسراف فى نيل المكافآت والمزايا، فكذبوا عن الله ورسوله، وضللوا العباد وضلوا الطريق.
ولا أجد حرجًا حين أقول إن خطاب المشايخ التاريخى المتكرر، وحكايات البطولات والعنتريات المفرطة، وخوارق الأوائل ومعجزات الأجداد، كانت كسراب يحسبه الظمآن ماء فإذا بلغه لم يجده شيئًا، فما كان من عقدة إلا ولها عندهم ألف حل وحل، وما من كربة إلا وكان لديهم ألف فرج وفرج، وما من مصيبة وكارثة وأزمة إلا وكان عندهم من الحكايات والروايات ما يزيل كل هذه الهموم، حتى لتشعر أن تاريخنا كله قد حدث ومر على أعين هؤلاء الأوائل، فوقفوا على حلول لكل المشاكل والمصائب ودونوها وسجلوها وقننوها، ولديهم النموذج الأمثل للحل إذا اتبعته عند عبدالله أو ابن عكرمة أو ابن زياد لدانت لك الدنيا اليوم وغدًا، ويكفيك فقط أن تعرض الأمر عليهم فتخرج سعيدًا مسرورًا بريئًا من كل داء، آمنًا من الخوف والجوع والعطش. فلا أعانت هذه الحكايات الناس على الواقع الأليم الذى تعيشه فى شىء، ولا أضافت للإنسانية علمًا أو اكتشافًا، ولا أغاثت وأجارت ملهوفًا من بنى جلدتهم، ولا أكلنا ولا شربنا «ولا طحنا ولا خبزنا». الغريب أنهم أول من يعلمون ذلك، وينكرونه إنكارًا بينًا، وما زالوا مصرّين على تحميل البسطاء الرُّكّع السُّجّد مسؤولية هذا كله لأنهم قد خاصموا منهج الله، فهل صالحته اليابان وكوريا وروسيا فشبعوا وملأوا البطون؟ أم صدقوا وكذب الواقع؟.
«الدولة المدنية هى الحل»
نقلا عن المصرى اليوم