د. ســامـح فــوزى
اختار الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، في مطلع توليه دار الافتاء أن يقيم ندوة موسعة حول الفتوى وبناء الإنسان، لم يقتصر الحضور فيها على العلماء المسلمين فقط، ولكنه كان حريصا على وجود شخصيات مسيحية، ورموز كنسية، من باب تأكيد أن الافتاء، والرأي الديني، والخطاب الديني، وجميعها مصطلحات وإن كانت متباينة، لكنها تتصل بإدراك المرء للنص الديني، وقدرته على التفاعل معه في بيئات متغيرة، وهي قضية تخص الأديان جميعًا في ضوء اتساع حجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع، والتي تمس المواطنين على اختلاف عقائدهم. ومما يؤكد هذا التوجه الكلمة التي ألقاها الدكتور نظير عياد في افتتاح الندوة، ثم في حواره مع عدد من المثقفين والعلماء في لقاء خاص عقب انتهاء أعمالها، والذي استهله باستعراض دراسة مهمة عن مؤشر الفتوى أعدها الدكتور طارق أبو هشيمة. انطلق المفتي في كلمته من قضية أساسية أن هناك نمطين من التطرف يصيبان المجتمع: الأول تطرف ديني، يٌظلم العقل، ويشوه نفسية الانسان، ويجرفه بعيدًا عن الفهم الديني الصحيح. والنمط الثاني هو التطرف اللا ديني أو المادي، الذي يمسخ شخصية المرء، ويبعده عن طبيعته الانسانية، ويقتل بداخله القيم والمبادئ. بالتأكيد، ما يشهده العالم من تطرف ديني ولا ديني، يثير الخوف على مستقبل الإنسان، وكينونته في هذا الكون.

من ناحية أولى، التطرف الديني معروف، ابتلي به العالمان العربي والإسلامي، وينتج من الانحراف في فهم وتأويل وتطبيق النص الديني، وينطوي على استعلاء وشعور بالسمو في مواجهة الآخرين الذين يتهمهم بالكفر، ولا يكتفي التطرف بالظلم الفكري، لكنه ينتقل إلى العنف في محاولة لتطبيق تصوره المنحرف، استنادا إلى تأويلات خاطئة لنصوص دينية. ولم يصب التطرف الديني مجتمعًا إلا وأسهم في تمزيق أواصله، وألقي عليه رداء كثيفا من الجمود والغلظة والتشوه النفسي، والتخلف الثقافي، والتراجع الاقتصادي والسياسي.

ومن ناحية ثانية لا يقل التطرف اللا ديني أو التطرف المادي خطورة عن التطرف الديني، بل يتسارع في محيطه الجغرافي ليشمل بقاعا كثيرة من العالم. وإذا كان التطرف الديني، في الأغلب الأعم، مركزه العالمين العربي والإسلامي، ومنهما انتشرت خلاياه في أماكن أخرى من العالم، فإن التطرف اللا ديني مركزه الثقافة الغربية، ومنها ينتشر إلى كافة المعمورة. من أبرز ملامحه الالحاد، ومعاداة الدين، والنزعة الاستهلاكية المفرطة، والاباحية، والرغبة في إعادة تعريف مفهوم الأسرة ذاته، وشيوع مفاهيم شاذة تجاه كيان الانسان، جسده، وعقله، وروحه، بما يخالف صورة الانسان في الأديان، والتي تتلاقي جميعا على أنه خلق بديع من الله، على صورته ومثاله. وهناك في المجتمعات الغربية الآن محاولات عديدة للتصدي لهذه النوعية من الأفكار من خلال السعي إلى بعث روح التدين. وأخطر ما في التطرف المادي هو محاولات البعض ربطه بمفاهيم التقدم والحداثة والحرية، في حين أن الحداثة الغربية - فكرا وممارسة- تبتعد عن هذه الصور المظلمة، وتنتصر لمفاهيم أساسية مثل الديمقراطية، والحريات، والتنمية، والمشاركة، واحترام العقل، والاحتفاء بالإرادة الإنسانية.

هناك ضرورة أن يدرك الافتاء الديني مخاطر النوعين من التطرف، ويتصدى لهما. في هذا السياق، هناك متطلبان أساسيان. الأول تأكيد الفقه المصري، الذي يتسم بالرحابة والتسامح، ونتسلح به في مواجهة الآراء الفقهية التي أتت من مجتمعات مغايرة، ولم تكن في صالح تطور الحياة على ضفاف النيل، وتسببت في مساحات من التطرف، والتشنج، والاضطراب النفسي. وسوف يظل من الأسباب الرئيسية في التطرف الديني هو استيراد فقه خارجي، مغاير لما تعرفه المدرسة الفقهية المصرية في رحاب الأزهر وعلمائه. أما المتطلب الثاني، فهو يتصل ببناء شراكات وعلاقات تعاون مع مؤسسات اقليمية ودولية تشارك في التصدي لنفس الهم، وأعني التطرف الديني والتطرف المادي، من خلال انتاج خطابات دينية ترفض الكراهية، وتحض على التسامح، وترفض كافة أشكال انتهاك الإنسانية تحت لافتات عصرية، وتجعل الإنسان، الكيان الذي حباه الله بالعقل والكرامة، أداة للاستماع الشهواني، أو الاستهلاك المفرط للحصول على اللذة، أو إنتاج صور من الانحراف في علاقات البشر بعضهم ببعض.

وقد انطوى الحوار مع المفتي على صراحة، ويٌحسب له أنه دعا مثقفين وأكاديميين وإعلاميين من خلفيات فكرية متنوعة، واستمع إلى وجهات نظر متباينة، وأجاب على أسئلة كثيرة، ووعد بتسجيل الاقتراحات المقدمة، والعمل عليها، وعقد مزيد من جلسات الحوار حولها، ولعل من أبرز ما شهدته الندوة تأكيد استمرارية العمل المؤسسي في دار الافتاء، من خلال تكريم المفتي الحالي للمفتي السابق، وإبراز دور القيادات والهياكل المؤسسية القائمة، وهو عنوان مهم للاستدامة، وتحقيق التراكم في العمل.
نقلا عن الاهرام