عمار علي حسن
فى صباح يوم بارد من عام ١٩٨٧ رأيت وزملائى الدكتورة نيفين عبدالمنعم مسعد. كنا جلوسًا فى قاعة الدرس، ننتظر مَن قرأنا اسمها فى جدول المحاضرات، وقيل لنا إنها هى مَن اختارها أستاذها الدكتور علىّ الدين هلال لتدرس لنا مادة النظم السياسية. كانت لدينا وقتها فكرة مبدئية عن أطروحتها للدكتوراة عن «الأقليات والاستقرار فى العالم العربى»، لكنا كنا نريد أن نرى صاحبة هذا العمل المهم، التى عرفنا أنها كانت الأولى على الجمهورية للقسم الأدبى بالثانوية العامة عام ١٩٧٤.

أطَلّت فجأة من باب القاعة سيدة ممشوقة القوام، يسترسل شعرها على ظهرها حتى تنورتها، كاسيًا بلوزة يتخالط فيها الأحمر والأزرق فيمنحها وقارًا ظاهرًا، رمت بصرها فتصفحت وجوهنا سريعًا، ثم أطلقت ابتسامة عذبة، فسَرَت فى نفوسنا راحة لها، زادت حين بدأت المحاضرة بحديث ودى عفوى، لم يَجْرِ على لسانها إنما كان ينطق به قلبها العامر بمحبة الناس والمعرفة.

تسرب إلى نفوسنا إحساس غامر بأنها ليست مدرسة لنا، إنما واحدة منّا، حتى إن أحدنا سألها عن عمرها، الذى كان مرآها لا يدل عليه. وأعتقد البعض منّا أنها ستكون هينة لينة فى مراجعة ما تكلفنا به من قراءات، أو ما ترصده من درجات، لكننا أدركنا فيما بعد أن هذه المبتسمة دومًا، الرفيقة الرقيقة، لا تتهاون فى التقييم، ولا تتردد فى مكافأة المحسن، ومعاقبة المسىء.

تُشعرك د. نيفين حين تتحدث بلغة عربية بسيطة أنها لا تغرف من بئر معرفية عميقة، لكن حين تقرأ لها تدرك مدى حرصها على الإحاطة والتدقيق فيما تكتب، وعلى إبداع أفكار ومسارات فى حقل تخصصها، وعلى صياغة هذا بلغة سلسة، عرفت فيما بعد أنها بنت اهتمامها بالأدب.

كانت أول محاولة للكتابة عند د. نيفين هى رواية قصيرة سطّرتها فى كراسة المدرسة، وكانت فى المرحلة الثانوية، وأعطتها عنوان «فدية النصر»، منفعلة وقتها بنصر أكتوبر ١٩٧٣، فلمَّا انتهت منها قررت أن تعرضها على الأستاذ نجيب محفوظ. وقتها كانت تسكن فى ١١٠ شارع النيل، وترى محفوظ وهو ذاهب فى البكور إلى مقر عمله بوزارة الأوقاف، وتلمحه أحيانًا وهو عائد إلى بيته فى الشارع نفسه.

وقفت فى شرفة البيت حتى رأته، فهرعت إليه، وأعطته الكراسة، طالبة أن يقرأها ويرشدها، فالتقطها منها باسمًا، ثم قال لها: لا تستعجلى، حين أنتهى منها سأشير لك لتنزلى إلىَّ وأقول لك رأيى. وظلت أيامًا تراقبه وهو يمضى أمام العمارة دون أن ينظر إليها، حتى جاء يوم، ورفع رأسه فرآها، وأشار إليها، فهبطت مسرعة، حتى مثلت بين يديه. سألها عن المدرسة التى تلتحق بها، فأجابته: «الميردييه»، فتعجب وقال لها: أسلوبك فيه الكثير من السجع والطباق والجناس، تبدين متأثرة بالمنفلوطى، وهذه الطريقة فى الكتابة لم يعد الآن وقتها، يجب أن تخففى أسلوبك، وتكتبى فى تدفق وبراح وعفوية أكثر من ذلك، وعليك أن تقرئى ألوانًا من الأدب الجديد.

كانت بالفعل فى ذلك الوقت مولعة بالمنفلوطى وقد قرأت له «النظرات» و«العبرات» وغيرهما، فأدركت أن محفوظ يردها عن هذه الطريقة فى الكتابة بأدب جم ورفق كعادته، فأقلعت عن كتابة الأدب، لكن الأدب تحول لديها إلى مادة استعمالية فى الكتابة السياسية، من حيث اللغة والصورة والسرد أحيانًا.

وحين انطلقت مجلة «وجهات نظر» عن «دار الشروق» كلفها رئيس تحريرها، الأستاذ جميل مطر، بأن تعرض كتابًا يحوى الرسائل الغرامية التى كتبها توفيق الحكيم لزوجة ابنه، فجفلت من التكليف، وترددت، لكن «مطر» ومعه الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى كان يرعى المجلة المعنية بتقديم عروض عميقة للكتب الصادرة حديثًا بلغات عدة، أقنعاها بالكتابة، ففعلت، ليصدر عرضها فى العدد الأول للمجلة فى فبراير عام ١٩٩٩. كان هو اللقاء الأول والأخير لها مع هيكل، الذى راح ينتقد طريقة الكتابة الأكاديمية فى العلوم السياسية، ويعيب على الباحثين اعتقادهم فى أن التركيبات والاصطلاحات المعقدة والعبارات الجافة تعطى ما ينتجونه سمتًا علميًّا. ويبدو أنه وقتها لم يكن قد قرأ شيئًا لمَن يحدثها، وربما قرأ ونسى، فأضافها على غيرها ممن يباعدون بين الأكاديميا والقارئ العادى، وهى لم تكن كذلك، حتى فى أطروحاتها، التى إن جاءت منضبطة علميًّا فهى لم تخْلُ من سلاسة.

لهذا كان اختيارها من بين أساتذة العلوم السياسية موفقًا، لتشرف على أطروحتى للدكتوراه عن «القيم السياسية فى الرواية العربية». يومها قالت لى: هذا مسار مهم، بدأه أستاذنا حامد ربيع، وكان يعتزم أن يعمق فيه دراساته، لكنه انشغل بغيره، ولم يمهله القدَر للعودة إليه، وهناك أطروحة للباحثة نادية بدر أبوغازى عن قضية الحرية فى مسرح توفيق الحكيم، ثم عولت على أن أكتب عملًا جيدًا يقيم همزات الوصل بين الأدب والسياسة.

انشغلت نيفين بالدراسات حول العالم العربى، لتراكم على معرفة حصّلتها على مهل عن الإقليم المحصور بين المحيط والخليج، وبان هذا فى اهتمامها بأحداث الجزائر التى اندلعت مطلع تسعينيات القرن العشرين، ثم بالحركات السياسية الإسلامية، لتكتب عنها كتابًا فريدًا فى بابه، يتناول سياستها الخارجية. بعدها انشغلت بدراسات حول إيران، وأمَدّت المكتبة العربية بدراسات مهمة فى هذا السبيل، دون أن تنقطع بين حين وآخر عن دراسة العرب سياسيًّا.

ولم تتوقف د. نيفين عن قراءة الأدب، ثم عادت إلى الكتابة الأدبية بطريقة أخرى، ما ظهر فى دراستها المهمة عن «الأقباط فى الأدب المصرى»، ووازت هذا بمحاولات قصصية أو حكايات سردية نشرتها فى جريدة «الشروق»، وكذلك فى تناولها بعض الروايات من زاوية «علم اجتماع الأدب» لتبدو فى هذا مغايرة ومدهشة.

إلى جانب التدريس والكتابة، لنيفين مسعد دور حركى فى مجال التعليم والبحث، يتمثل فى عمادتها لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بترشيح من أستاذنا د. أحمد يوسف أحمد، وانضمامها معه إلى فريق مركز دراسات الوحدة العربية الذى مارس، ولا يزال، دورًا مهمًّا فى تعميق الدراسات حول العالم العربى. وأخيرًا انضمت إلى «المجلس القومى لحقوق الإنسان».

فاجأتنا د. نيفين قبل شهور بأنها تصارع المرض اللعين، باحت بآلامها وآمالها، فجذبت إليها أكثر قلوب محبيها والعارفين بفضلها، فرفع الكل أكف الضراعة إلى الله طالبين منه أن ينصرها على عدوها، وهم يمتلئون بثقة فى أن النصر المبين سيكون حليفها فى هذه المعركة.
نقلا عن المصري اليوم