بقلم : القمص أثناسيوس فهمي جورج
 ليس الإعلام الكنسي هدفا في حد ذاته؛ لكن مَسْحَنَةُ العالم هي رسالتنا بالشهادة والكرازة لاسم الخلاص . واهتمامنا بالإعلام هو أداة ووسيلة لا نتركها فتكون عائقًا.. لذلك المسيحية توظِّف الإعلام ليكون إعلانًا لجميع الأمم من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها... رؤيتنا لمَسْحَنَةِ العالم هي التي تجعلنا ندخل مجالات الإعلام، فأكبر إساءة إلى حقائقنا الإيمانية هو أن نأسرها في حيز ضيق لا يتداوله سوانا؛ أو لا يتدوله جميعنا؛ بل المتخصصون.. لذلك تعمل الكنيسة لتكون عالمًا للعالم، أو أن يصير العالم كنيسة (كنيسة العالم) كي يأتي ملكوت الله ويصير الله الكل للكل؛ عندما يتحد الكل فيه وبه. صورة المسيح ربنا وكنيسته ورسالتها الخلاصية التي تختص فقط بملكوته وبره وسره  .

يعيش العالم وسط إحباط وتخبط كوني؛ يحتاج إلى بشارة الخلاص المفرحة، وإلى خطاب الكنيسة النبوﻱ الذﻱ يتجاوز التكرار الاستهلاكي وتفاهات ركاكة المواد المقدمة ؛ باجنداتها وعداواتها وانانياتها وفنائها  .. خطاب كرازﻱ ابدي مدروس ومبدع، يبتعد عن الرتابة والتكرار وانتهاء الصلاحية. ألمْ يقل لنا الآباء شيوخ البرية أن الجحيم هو غياب الوجه وإنحصارالرؤية والتطلع في مرآة مشروخة؟؟! فبدون رؤية يجمح الشعب، وليس بالحوائط وحدها ستتحقق كرازتنا؛ بل بغرس وبناء النفوس وترميمها وتنويرها وتثبيتها. بعد ما نتعرض له من مذابح ثقافية وإلغاء ممنهج وتهميش متعمَّد وتغييب مبرمج ، علي كل الاصعدة ،فضلا عن حملات التشكيك والتكفير الشيطانية التي تفرد لها المساحات وتنفق عليها الاموال .

لم يعد الان الإعلام مجردةسلطة رابعة؛ لكنه السلطة الأولى؛ وهو سلاح العصر والمصدر الرئيسي للمعارف؛ حتى أن أحد الآباء الكبار (قال انا مستعد أن أبيع تاجي كي أصدر مجلة).. فالإعلام مدخل إلى التغيير والكرازة المتجددة والمتسعة . لمعرفة وجه المسيح إلهنا... إعلام يساعد المسيحي أن يكون مسيحيًا؛ يقدم له معنى مسيحيته وحضورة وتميزه وهويته وعقيدته وكتابه وكنسيته وتاريخه من أجل تكوينه وتثبيته؛ كي يظل شاهدًا أصيلاً للمسيح (شاهد لآلام الرب يسوع وقيامته) كأيقونة منظورة للمسيح؛ بروح الإنجيل وتعليم الكنيسة وفكر الآباء وعقيدة المجامع ونبع العبادة وكنزها اللاهوتي الحي، وبمواهب تفسير الكتاب المقدس.،واذاعة مايقوله الروح للكنائس ،بعيدا عن المادية والاستهلاك والسياسة بتقلباتها واهؤائها النزاعية

 بالإعلام نكون جميعًا مرسَلين كارزين عبر كنيسة كونية؛ تحمل رسالة الخلاص للعالم كله، وخميرة تخمِّر العجين كله، وشبكة حصاد مطروحة لجمع السمك الوفير؛ يملأها المسيح عبر الفضائيات والإنترنت ووسائل التفاعل واليوتيوب؛ حيث (اللا - مكان)، وحيث تنتقل المعلومة لتكون هنا والآن، بواسطة الإعلام الخلّاق الذﻱ به تتم هندسة وتشكيل الآراء والقناعات والرؤيَ، وسط جيل رقمي، يحتاج أن نضخ فيه نبض الروح الإلهي، وأن نقدم له خدمة البشارة عبر هذه الوسائط الإعلامية التي غدت حتمية ومنتشرة في عالم اليوم.

إن الرسالة موضوعة علينا، فويل لنا إن لم نستخدمها في خدمة خلاص القارة الرقمية العالمية، لتمكين الإرسالية الإنجيلية على هذه الساحة الرقمية، وعبر طُرُقات هذا الفضاء الإعلامي والرقمي السريع التطور، ليطرق فيه مسيحنا مسيح العالم كله أبواب القلوب والعقول.... يدخلها ويتعشى ويسكن فيها، كلمته أزلية أبدية وثابتة، لكن وسائل توصيلها قد تطورت وتدرجت بطريقة هائلة ومذهلة، تستلزم منا كل مواكبة؛ لتوظيفها كصوت وبوق في الكرازة الإعلامية.
هناك تحديات ورؤي وخطط وتقنيات وعالم كبير ينفتح ويزحف ويسرع كالبرق، ولا مجال لأحد أن يبقى في شرفة المتفرجين فيتأخر وينكفئ.. ومن هنا تسعي الكوادر الواعية في خدمة الإعلام الكنسي؛ كي تفهم وتنظم حضورها في عالم الفضائيات واليوتيوب والمواقع والمدونات والفيس بوك وتوتير؛ في إطار رعوﻱ شامل ومشبع وموجَّه؛ لكي يكون للرب (شهود رقميين) فنعيش الأمانة الكرازية. عبر عملية تثاقف وشهادة وبشارة وتقديس وإحياء لرسالة الإنجيل بتعبير واحتياج ومواءمة للحظة الحاضرة.

لا يمكن أن يتم وضع نسق إعلامي كنسي إبداعي واعٍ يتناسب طرديًا مع المتغيرات؛ إلا بالتعمق الدراسي واستاطيقا الجمال، مع الاتصال الإعلامي بعقول المشاهدين، لتقديم إبداع جمالي مشبع بمذاقات مناسبة غير مستهلكة؛ لأن المتلقي قد مل مما اعتاد عليه ويبحث عما يثير اهتمامه وتفاعله ويخاطب فكره المعاصر، بتوسيع نطاق العقلية والفعل التواصلي بالروئ والدلالات التي ترفض المسلَّمات التي تجاوزها الزمن وتخطاها، مع الأخذ بالتطورات الجذرية والتقدم الذﻱ فرض لغة ثقافية جديدة نحياها الآن (شاشات تليفزيون "مونيتور" والشاشات العملاقة؛ ووسائط الديچيتال؛ والأسطوانات الممغنطة والرقمية؛ والأقمار الصناعية)؛ التي جعلت المعنى مباشرًا ومنتشرًا وكونيًا وأكثر حضورًا... في الزمان (الآن)  وفي المكان (هنا) ولا يوجد ما هو بعيد اونائي.

الإعلام الكنسي يتقدم كلما كان قادرًا في توضيح المعاني الإيمانية والفكر الكتابي والرمزيات والطقوس الكنسية؛ ببراعة بتقديم  ابداعي وخلاق، يؤسس  ل(استاطقيا) مستقبله؛ تتسم بالجميل والجليل والمسر ؛ الذﻱ يتلامس مع الناس في ظروفهم، والذﻱ يتميز بالإدراك والوعي.. وبهذا يصير مصدرًا للاحترام فكرًا ومعنى وخبرة وإدراكًا. فالمفهوم أكثر أهمية من العمل، وهو ما يلزم العاملين في مجال الإعلام الكنسي المتخصص؛ أن يصبح المفهوم عندهم (أهم) من التنفيذ؛ وتصبح الفكرة هي الهدف الحقيقي للعمل الإعلامي؛ لأنها تندرج تحت العنوان الرئيسي (فن المفهوم) The Conceptualism الذﻱ يبث في فكر الصورة (التفكير البصري) لفهم الرسالة من خلال لغة الشكل والصورة.

إن التكنولوچيا بمثابة الحصان الذﻱ يجر عربة الثقافة والمعرفة، ومن هنا نشير  ملتفتين إلى أننا نعيش في ثقافة الواقع المتصور التي أباحتها لنا تكنولوچيا الاتصال الجديدة. فتحول حيز المكان إلى حيز التدفقات الذﻱ يحمل معه مفهومًا جديدًا يتعارض مع زمن الساعة، في ظل ما سمي بالنظام التناظرﻱ الرقمي، وفي ظل حضارة الصورة وحالة العصف الصورﻱ وإنتاج وسائل جديدة تبرز أرقىَ تجليات العقل الإنساني وأهدافها، وهي التي تشكل الوعي المراد لنا إنجازه؛ في حركة تجديد الخليقة وخلاص البشرية ونمو الكرازة وانتشارها في العالم، وتقديم معالم الطريق للملكوت : التوبة (ميطانيا) ، الكلمة (كيريجما) ، الشركة (كينونيا) ، العبادة (ليتورچيا) ، الخدمة (دياكونيا) ، الشهادة (مارتيريا) ،لنصل إلى المجيء في (الباروسيا).

التكليف الإلهي للكنيسة هو رسالتها الإعلامية، تقف على مرصدها وتنتصب على الحصن، لتراقب وتري ماذا يقول الله لنا، ليجيبنا بالصلاة والمعرفة والدراسة، فنكتب الرؤية وننقشها على الألواح؛ ونستشرف خطة الله في العمل بثمار الثلاثين والستين والمئة.