كتبت الإعلامية لميس الحديدى أسئلة حول علاقة مصر بصندوق النقد الدولي وقالت كان يمكن للزياره المرتقبه غدا لكريستالينا جورجيفا مدير صندوق النقد الدولى للقاهره ان تكون زيارة عاديه بروتوكوليه.. فهى زيارة معدٌ لها منذ أكثر من شهر ، إلا ان التصريحات الرسميه المصريه الأخيره حول إعادة التفاوض مع الصندوق و ما جاء على لسان جورجيفا بأن الإصلاحات المصريه يجب ان تكون "عاجله وليست آجله" تجعلها زياره هامه تفتح أبواب التساؤلات حول العلاقه مع صندوق النقد : ماذا نريد منه و ماذا يريد منا ؟
 
العلاقه مع الصندوق قديمه تعود الى تسعينيات القرن حين كان أول برنامج للإصلاح الاقتصادى ..حاورت وقتها د إبراهيم شحاته نائب رئيس البنك الدولى وأطلق لأول مره عبارته الشهيره مشبها الإصلاح الاقتصادى "بالدواء المر" . تمر السنون ونعود للطبيب مره أخرى في ٢٠١٦ بعد ثورتين أنهكتا جسد البلد واقتصاده .نبدأ رحله العلاج "المر" ببرنامج في ٢٠١٦ ، ثم برنامجين اخرين في ٢٠٢٠ وصولا الى البرنامج الحالي للتسهيل الائتماني و الذى وُقع في ٢٠٢٢، ثم تمت زيادة تمويله الى ٨ مليار دولار في ٢٠٢٤ ليصل إجمالى القروض المصريه من صندوق النقد الى ٢٨ مليار دولار وتصبح مصر هي ثانى أكبر مقترض من الصندوق بعد الارجنتين .
 
مرت رحلتنا مع الصندوق – طبيب النظام المالى العالمى- في بداياتها دون صدامات حاده ، فكانت مصر نموذج نجاح لبرامج الصندوق ، بينما كنا نحن سعداء بشهادات "الصحه" التي يمنحها "الطبيب" والتي تحسن تصنيفنا الإئتمانى وتفتح الأبواب على مصرعيها للتمويلات من الأسواق العالميه .. وربما كانت تلك بدايه المشكله .. فقد أدمنّا الأموال "الرخيصه " دون إنفاقها على اقتصاد حقيقى ، وقررت الدوله- ربما مضطره حينها - ان تقوم بكل الأدوار الإقتصاديه .. بينما اختار الصندوق- في البدايات - ان يكون "رفيقا و سياسيا " في تقاريره.. حتى تفاقمت المشكلات و تراكمت الديون فتعطلت المراجعات .. ثم جاءت صفقه "رأس الحكمه" المنقذه" و تلاها تعديلٌ في الاتفاق مع الصندوق مع التحرك لتنفيذٍ حاسم للإجراءات بكل ما فيها من تخفيضٍ جديد للعمله و خفض مستمر للدعم على الطاقه و هو ما راكم الضغوط على كل الطبقات المصريه و استوجب وقفه نراجع فيها – عن حق – قدرتنا على الاستمرار فيما تعهدنا به.
و للحق فإن صندوق النقد لا يطرق أبواب الدول ، لكن الحكومات "المتأزمة" هي التي تلجأ اليه ، كما إننا في كل برنامج كنا نفاخر بأن ما وقعنا عليه هو " برنامجٌ وطنى" ، و عند التفاوض على زياده قيمه القرض في ٢٠٢٤ كانت بوادر الأزمة الإقليميّة وتأثيراتها علينا قد باتت واضحه ، فكان يمكننا إعادة التفاوض حول المدد الزمنيه بالذات في رفع الدعم و تخفيض سعر العمله وأسعار الفائده وهى الأمور الأكثر تأثيرا على المواطن والاقتصاد ..لكننا لم نفعل وكان الهدف-حينها- الإسراع باتفاق "التقاط انفاس "يساعد في تصنيفاتنا الائتمانية و يعيد الثقه في إنقاذ "السفينه" ..فماذا عن "الركاب"؟
ماذا نربد اذن من الصندوق هذه المره ؟ هل سنطالب بخفض إجراءات الضغط على الناس ام على الحكومه ؟ وهناك فرق ..بمعنى هل سنطالب يإطاله أمد إجراءات خفض الدعم – و هو ما أعلن بالفعل - و عدم رفع أسعار الفائده وإرجاء زياده ضريبه القيمه المضافه ؟ ، ام اننا سنطالب بتقليل الضغط في اتجاه تسريع تخارج الدوله من الاقتصاد ( القليل منه تحقق ) ، و تخفيف الضغط في اتجاه التقشف الحكومى او التحرير الكامل للعمله ..علينا ان نحدد اختياراتنا وأولوياتنا في التفاوض.
 
لكن الاسئله الحاسمه علينا ان نسألها نحن و نصارح أنفسنا بإجاباتها قبل ان نتوجه للصندوق: ماذا نريد نحن لإقتصادنا ؟ هل نبحث عن اصلاح حقيقى ام عن فتره التقاط انفاس جديده ؟هل نحن جادون في تحديد دور الدوله في الاقتصاد و عدم منافستها للقطاع الخاص؟ هل نحن جادون في اصلاح مناخ الاستثمار و توجيهه الى القطاعات الانتاجيه وليس فقط الإنشائية ؟ ام اننا قررنا ان يكون محرك إقتصادنا في المرحله المقبله هو بيع مجموعه من الأراضى للتنميه الاستثماريه فقط؟ فهو طريقٌ اسهل كثيرا وأسرع من الإصلاح .هل ندرك ان التصدير يجب ان يشغل اهتمامنا قبل ان نكيل الاتهامات للاستيراد ؟ و اذا خفض الصندوق إجراءاته هل سنستغل ذلك في التصحيح ؟ ام اننا سنعود لتوسيع الانفاق الحكومى من جديد ؟إجابات هذه الاسئله لم تعد اختياريه بل اجباريه ولا وقت فيها للخطأ ..
 
العلاقه مع صندوق النقد اختيار و ليست إجبارا . هناك دول اختارت الا تتعامل مع الصندوق و تتعافى من المرض بأطبائها، وهناك دول أخرى التزمت بالنظام المالى العالمى واتخذت طريق الصندوق ، و لكلٍ نجاحات وإخفاقات ..المطلوب هنا ان يكون فريق التفاوض جاهزا بمطالبه ، واضحا في أهدافه ملتزما بما يتعهد به مدركا ما يمكن تطبيقه ومالا يمكن و محددا أولوياته .. لا ينظر فقط الى "السفينه بما يختلط فيها أرقام العجز و الدين والموازنة ولكن ينظر للناس الذين يعيشون على السفينه و الذين يتجرعون "الدواء المر" .. وهنا نفتقد الوزراء ذوى الحس السياسى الذين يضعون السياسه بموازاة الأرقام .
لا اظن ان الحكومه المصريه متجهه الى صدامٍ مع الصندوق ، فقد استبقت مجىء جورجيفا بعدد من القرارات منها إحياء لجنه الدين – كانت موجوده في عهد وزيره التخطيط هاله السعيد . كما إننى اعرف ان كريستالينا جورجيفا ستستخدم اكثر اللغات دبلوماسيه – وان كانت مباشره - في الحوار مع الإداره المصريه ، وهى القادمه من دوله متوسطه -بلغاريا - تدرك ما معنى الألم . نستطيع ان نعيد العلاقه مع الصندوق الى مسارها الصحيح .. لكن علينا ان نعرف ان هذا هو اختبارنا -نحن- الأخير وعلينا اجتيازه.. يذهب الصندوق او يبقى لكننا سنستمر نواجه الواقع الصعب .. فإن لم ننجح حينها لن تنفعنا صناديق العالم