د. منى نوال حلمى
اليوم ٤ نوفمبر، يُكمل عيد الحب المصرى عامه الخمسين، حيث اقترح «مصطفى أمين» فكرته فى عام ١٩٧٤.

وهكذا يكون اليوم هو اليوبيل الذهبى لعيد الحب، فى نسخته المصرية.

ربما أستطيع مقاومة نداء الكلمات عن قضية هنا أو قضية هناك. ربما أستطيع إسكات القلم، وتجاهل إغراء الصفحة البيضاء، أمام ألوان الحياة.

مع «الحب»، تتوقف كل أجهزتى الدفاعية. تكفى طرقة واحدة على باب القلب، أو باب البيت، لكى أفقد صلابة مناعتى، وأتوه وسط مدارات من الخيال، والأمنيات المستحيلة.

أعترف أننى أعانى من حساسية غير عادية، فى مواجهة هذا الكائن، الواقعى جدًّا، الخرافى جدًّا، الذى اسمه «الحب». وهذا ليس عيبًا فيما أظن. كلنا لدينا حساسية زائدة، تجاه شىء ما. البعض لديه حساسية زائدة تجاه الصخب والضوضاء. البعض لديه حساسية زائدة تجاه مد البحر أو ليالى اكتمال القمر. البعض لديه حساسية زائدة تجاه تغير المواسم. نقطة ضعف البعض هى شجن الغناء فى الخريف. والبعض يظل جامدًا، ولا يتحرك إلا بلمسة حنان.

ولست أدرى السبب بالتحديد.. هل لأننى أقضى حياتى فى نسج الكلمات، أنام، وأصحو فى بيوت الشِعر؟.

القصيدة نفاذ لأحلى الأسرار، الموجعة، الموحية، المعتصرة رحيق الحياة.. وهل هناك مثل «الحب» يحملنا إلى آفاق الغموض، والدهشة؟.

«الحب» هو الهدية الكبرى التى تمنحها الحياة للبشر، فى كل زمان ومكان. «الحب» هو القوة المحركة للكون.

هو تلك الطاقة المحفزة للطبيعة على النماء، رغم الأعاصير وعواصف الغبار. «الحب» هو الدافع السحرى للتشبث بالحياة، وإتقان العمل، والحرص على الإبداع، والتجدد، والابتكار.

لولا «الحب» لَمَا عرفنا أجمل الأغنيات والموسيقى، وأروع حكايات التضحية والوفاء، ولَمَا قامت أعظم الثورات، ولَمَا اكتُشفت مواطن الداء، والشِفاء.

حينما تموت قصة حب، تبكى السماء.. وحينما يفترق حبيبان، تتجهم الأشجار.. وحينما يتخاصم عاشقان، يختفى الوجه المضىء للقمر.

ليس عندى أدنى شك أننا حين نمشى فى جنازة حكاية عشق، تمشى معنا الزهور، والبلابل، وأمواج البحر. قبور العشاق ليست قبورًا. هى حدائق تغنى بالذكريات. حولها الورود، وتغريد الطيور ينشد فوقنا: «هنا يرقد رجل، ذاق الحب حتى الموت».. و«هنا بقايا امرأة، عشقت دون أمل».

فى مجتمعاتنا، لا يتكلمون بالسوء عن الخيانة، والكذب، والغش، وقهر النساء، مثلما يتكلمون بالسوء عن «الحب».

تعيش فى مناخ يحرم الحب، يجرم الحب، يلعن الحب. نحن لا نسمع خيرًا عن الحب إلا فى الأغانى، وعلى شاشة السينما.

«الحب» عيب، وعار، وحرام، وفسق، واستهتار، ورذيلة، وخطيئة، وانحلال، وفساد، وانحطاط، وقلة أدب.

مبالغ خيالية تُنفق لصنع أغنية حب واحدة، لا نعيش مليمًا واحدًا من ثمنها المكلف. هكذا الحب فى الأغانى، باهظ الثمن جدًّا. لكن الحب، فى الحياة، يكلف الرجل، أو المرأة، سمعتها، وكرامتها. الرجل الذى يعلن عن حبيبته فى بلادنا كأنه يعلن عن «فضيحة». والمرأة التى تعلن عن حبيبها كأنها تكتب بيديها صك إدانتها، وتقدم دليلًا ماديًّا على مبررات إعدامها.

ما بين تمجيد «الحب»، فى الأغانى، وتأثيم «الحب» فى الحياة، تذبل ملايين القلوب، وتتعطل أجمل وأسمى المشاعر، والطاقات. وهذا الفصام يدفعنا إلى الكذب، والنفاق، والعلاقات السِرية، المختبئة وراء البيوت المغلقة، ونحن نشعر بالحقارة والمهانة وتأنيب الضمير.

إن المجتمعات التى تعيش «الحب» فى كتمان وسرية، بينما تعلنه مثل أفيش فيلم، أو اسم أغنية، مجتمعات مريضة، متخبطة، وتعيسة. وما أكثر الجرائم التى تنتج من هذه الازدواجية الأخلاقية، والتناقضات العاطفية.

ليس من المعقول أن نحتفل بالعيد الخمسين لولادة عيد الحب، وما زال هناك الاعتقاد أن «الحب» انحطاط، ورذيلة، وفساد، وقلة أدب، وفضيحة، وفسق، واستهتار، وانحلال.

خمسون عامًا مرت، ومازالت الفتاة فى بلادنا تخفى مكالمات ورسائل ومواعيد الحب، وكأنها تتعاطى الممنوعات والمخدرات. وحين يُكتشف أمرها، تُعاقب جسديًّا ونفسيًّا، وفى أحيان كثيرة، يتم نحرها، وتقطيع جثتها، ورميها مثل كيس من القمامة.

خمسون عامًا مرت، ومازال الشاب فى بلادنا، إذا أراد ممارسة الابتزاز الجنسى ضد فتاة، مدفوعًا بالكبت، فإنه يستدرجها باسم الحب. وعندما تصدقه، ينصب لها المصيدة، ويصورها أثناء العلاقة الجسدية. ويظل يهددها بإرسال الصور إلى أهلها، وبنشرها على الإنترنت. وتفضل الفتاة الاستجابة لهذا الابتزاز، حيث تدرك فى أعماقها أن المجتمع كله يجرمها هى، لا الشاب. هى التى «أحبت»، وانزلقت إلى رذيلة ومعصية الحب.

الاحتفال الحقيقى بعيد الحب هو عندما نؤمن بأن «الحب» هو أرقى وأنبل العواطف.

وأن «الحب» فضيلة، وأدب، وحضارة، فلا نرجم أى حبيبين، أو عاشقين، بالحجارة.

عيد الحب، الذى نشتاق إليه، هو أن نستطيع توفير «الأمن العاطفى» لجميع النساء، وجميع الرجال، الأسوياء، الذين يرفضون الكذب، والزيف، والسرية.

هل يجىء يوم، نجاهر فيه بحبنا، دون خوف من الاتهامات، والإدانات؟. هل نستطيع أن نعيش كلمة واحدة من كلمات الأغانى التى تنهال علينا، كالسيول ليلًا، ونهارًا؟. ومتى نعيش الحب، كما نتنفس بشكل طبيعى، سلس، خالٍ من العُقد، ونزعات التملك، والأوهام، والمخاوف، والقهر الذكورى للنساء؟.

خِتامه شِعر

قالوا لى إنك

رجل غريب الأطوار

يصحو الليل.. ينام النهار

يشرب المحيط

فيزداد وقارًا على وقار

يلملم أوراق الشجر الساقطة فى الخريف

على ممشى الذكريات

يعشق تسلق النساء

والنوم فى عربات القطار

قالوا لى إنك

رجل صعب الإرضاء

لا يريد شيئًا

ويريد كل الأشياء

رجل الليالى العابرات

ترحل دون وداع

تخون كل ليلة

من شِدة الوفاء

للشاعرات الفاتنات رجل من ورق

للسابحات التائهات رجل من ماء

سألتهم: أحقًّا ما تحكون؟

مَن هو؟ أين يقيم؟

ما اسمه؟ ومَن يكون؟

أيُعقل هكذا بكل بساطة

أن يولد الفرح المتعسر من رحم المفاجآت؟

أهو أوان صحوتى وإفاقتى

بعد أن ثمل القلب من خمرة الأحزان؟

سأسافر إليه

ولو مشيًا على الأقدام

سأحبه بكل صرخاتى المحتجة

على هجرة المطر

هاربة من أزمنة الصحراء

وحصارات الضجر

سأحبه بأعصابى المنهارة

ومشاعرى حنطها الزمن

أمنحه أعماق قلبى المحترق

الذى راح هدر
نقلا عن المصرى اليوم