قصة قصيرة
أحمد الخميسي
لا يدري كيف وجد نفسه في مكان يلفه غيم من ضوء برتقالي شاحب، تسيل فيه كل رقعة في رقعة مجاورة بلا حواجز ولا جدران. تمهل ليدرك إن كان هذا غروبا ينسحب منه النور ، أم بداية عتمة ليل.
تلفت حوله، ثم تطلع إلى الأمام فشاهد منصة مستطيلة ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، أدام النظر إليها بمزاج عكر وأعصاب محترقة تجن اشتهاء التدخين. هناك جلس ثمانية رجال بأكتاف متلاصقة، يوشوشون بعضهم البعض.
نظر إليهم وداخله شعور بأنه رأى تلك الوجوه من قبل في الصحافة. مر ببصره على أياديهم يفتش فيها عن ذؤابة سيجارة مشتعلة فلم يجد. تمتم:" لكن من غير المعقول أن تجتمع شخصيات رفيعة الشأن لا يكون من بينها مدخن واحد؟".
فجأة انبثق إلى جواره مثل السحر رجل قصير. طلع واقفا من دون أن يحدث أدنى صوت أو يحرك رفة هواء. لبث الرجل القصير واقفا بجواره برأس مرفوع مرسلا بصره إلى المنصة بعنجهية وغطرسة، وقبل أن يجد تفسيرا لذلك البزوغ المباغت لوى القصير رقبته ناحيته وخاطبه بنبرة متعجرفة:" تفضل"، وبسط ذراعه في اتجاه المنصة ثم اعتدل من دون أن ينتظر ردا.
لم يفهم ما الذي يعنيه القصير بقوله" تفضل"؟ أحس رأسه يكاد ينفلق وخلاياه توشك أن تجن من شدة حاجته إلى سيجارة، وشعر أن قدميه لا تحملانه. أولى ظهره للقصير وراح يخوض خفيفا في الغيم البرتقالي، وتفرق بصره بين حلقات صغيرة من أناس يثرثرون. فكر في أن عليه أن يعثر على صديق يسعفه بسيجارة. برق أمامه وجه بدا له مألوفا وإن كان لا يذكر صاحبه.
تقدم نحوه، وتوقف أمامه يتوسل سيجارة بنظراته وتمتماته، فدس الرجل يده في جيب سترته وسحب علبة دخان وما إن رفعها في الهواء حتى ظهرت منبعجة الجوانب فارغة. رد بكغه العلبة مصدوما.
وجد نفسه ثانية – لا يدري كيف- أمام المنصة والرجل القصير في مكانه كأنه كان ينتظره. تحول القصير إليه وهز رأسه بغطرسة ودمدم بصوت كالصلب:" إنهم في انتظارك. ألم أقل لك تفضل؟". من اولئك الذين ينتظرونه؟ وما مناسبة هذا الاجتماع المهيب؟ ولم يدعونه هو من دون الآخرين إلى المنصة؟!
خامره مع الأسئلة الحيرى شعور بالأسف الشديد على أنه خرمان في لحظة بالغة الأهمية قد يصعد فيها إلى منصة ويجالس شخصيات رفيعة المقام. أربعين عاما يدخن ويحاول الاقلاع، إلى أن سلم بعجزه وتعايش مع ذلك، لكن ارتفاع الأسعار على نحو جنوني رده إلى ضرورة الاقلاع فلم يدخن في الأيام الثلاثة الأخيرة سوى أربع سجائر، آخرها كان مساء أمس. والآن تفسد عليه حاجته إلى سيجارة قدرته على التركيز في أهمية الصعود إلى أعلى والاحاطة بمغزى هذه اللحظة.
أفاق من خواطره على القصير يسدد إليه نظرة صارمة ويصيح فيه بغضب: "قلت لك تفضل. ألا تسمع؟". لابد أن الأمر بالغ الخطورة بحيث يرسلون إليه خصيصا هذا القصير الساخط الحانق. الأرجح أن يكون الهدف من هذا الاجتماع الرصين اختيار شخص ما لمنصب كبير، ربما رئيس الجمهورية. لكن ما علاقته هو بذلك؟ لقد قضى حياته بين البيت والشغل عاكفا على احتياجات زوجته وأولاده الثلاثة، ولم يكن له أي اتصال بشئون سياسة أو أحزاب. ترى هل يدعونه إلى الصعود تحديدا لأنه بلا تاريخ؟ نكرة؟ يدعونه لكي يصعد ويرتبك
ويبرطم بكلام تائه مضطرب فيترك بسذاجته انطباعا بأن كل الأمور تجري بنزاهة؟ لكنهم لا يتخيلون ولا في أحلامهم أنه على علم بكل صغيرة وكبيرة، وأنه عاش يتابع الأحداث في صمت، ويعلق عليها فقط بينه وبين نفسه. لا يعرفون أنه ليس بالبساطة التي تبدو على وجهه الطيب وأنفه الضخم. عاد ببصره إلى المنصة:" لكن ما الذي سأخسره إذا صعدت؟ سأقف صامتا في البداية لحظات، ثم أتنحنح كما يفعلون، وبعدها أتلفت حولي متسائلا بنظراتي: أين السجائر؟ فيهرول شخص ما الي ويضع علبة دخان أمامي منحنيا بكل احترام.
أدخن منها حتى أشبع، ثم أدق على المنصة بقبضتي مرتين كما يفعلون، وألقي خطابي، وحينئذ يصابون بالذهول، ويصدمهم أن النكرة المجهول على علم بكل شيء. سأتكلم عن قضية مياه النيل وأن التفريط فيه تفريط في الحياة، وعن استعادة جزيرتي تيران وصنافير، واستنهاض الصناعة، والكف عن بيع أصول الدولة، ثم أتطرق إلى توفير الخدمات الصحية للناس والارتقاء بالتعليم، وأخيرا أقول بصوت عال وبقوة إن مطلبي العاجل هو وقف الغلاء الذي فاق احتمال البشر .
الله يلعن الدخان لو وجد سيجارة واحدة الآن لرتب أفكاره بحيث تخرج منظمة مقنعة. برقت في مخيلته فجأة بدلته المدلاة من مسمار في باب حجرة النوم. هناك علبة دخان كاملة. اندفع يدوس ضباب الضوء البرتقالي قاصدا البيت، ووجد نفسه هناك في غمضة عين. فتش البدلة بأصابع مرتجفة وأنفاس لاهثة لكنه لم يعثر على شيء.
مجددا رأى نفسه واقفا أمام المنصة بجوار القصير الذي صاح فيه بصوت كالرعد:" إنهم في انتظارك. هل تفهم هذا؟". تمتم لنفسه باستسلام:" لا مناص من الصعود. المهم ألا أرتبك وأن ألقي كلمتي بثقة وأن أقول كل ما لدي من غير خوف". قطع القصير استرساله في خواطره بلكزة في ظهره دفعته خطوة إلى الأمام فكاد أن يقع على وجهه، وأضاف القصير من بين أسنانه غاضبا: "قلت لك إنهم ينتظرونك".
تقدم نحو المنصة حتى لم يعد أمامه سوى ثلاث درجات من سلم خشبي فيصبح في الأعلى، ويرتفع في لحظة من قاع المجتمع إلى قمته حتى وهو خرمان ورأسه مهروس مشوش. رفع قدمه اليمنى ووضعها على الدرجة الأولى، فرأى عن قرب وجوه الجالسين وهم يحدقون به باهتمام وترقب. ارتقى الدرجة الثانية ثم الثالثة وتوقف ليلتقط أنفاسه، لكن موجة من العتمة لطمت رأسه فترنح في وقفته، وتلاشت المنصة وغاب المكان كاملا.
أفاق عند الفجر قرب زوجته تشخر في نومها العميق. هز رأسه عدة مرات ليفيق. تربع جالسا على السرير ثم نهض بحذر وخرج إلى الصالة تسبقه عيناه إلى موضع علبه السجائر على المنضدة. مد يده إلى العلبة بلهفة مضطربة وسحب سيجارة. أخذ الخدر الممتع يسري في أعصابه المشدودة وراح صدره يهدأ وتنتظم أنفاسه. دار ببصره في ما حوله وهو يتمتم :" لكن أليست غريبة أن يفكروا في شخصي المتواضع لمثل هذا المنصب الكبير؟". زحزح الكرسي إلى الخلف. نهض واقفا. قاوم رغبته في إيقاظ أولاده ليحكي لهم ما جرى، ثم فكر في أنهم لن يصدقوا ما حدث خاصة حين يحكي لهم كيف ضرب المنضدة بقبضته قبل ان يلقي خطابه الهام وما تلى ذلك من تصفيق. لن يصدقوه.
عاد إلى الجلوس سارحا مع خواطره, ولمعت عيناه بسرور من الدهشة: " هكذا فجأة. حدث كل شيء فجأة.. غريب. لكن جميل. جميل بالفعل".