د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك
مُقدّمةٌ
إنّ هذه السُّطور التّالية ما هي إلَّا مجرّد خَواطرٍ وُجوديَّة ودينيَّة حول العَلَاقة بين الأجيال السّالفة والحاضِرة؛ وتتمحور كلّها حول عَلَاقتنا بالماضِي (أو الأجداد، وما صنعوه من أمجاد)، وبالحاضر (أو واقعنا الحالي، وما ينبغي علينا فعله)، وبالمستقبَل (أو المعنى الأخير الكامِن وراء الوُجود العامّ والخاصّ، وما ينتظرنا، وما ننتظره). ولا أرمِي من خلال هذه الخَواطر المُقْتَضَبة إلى تقديم أُطْروحات ونظريّات فلسفيَّة-دينيَّة مُحكَمة، وإنّما مجرّد إرهاصات أوَّلِيّة لأحاسيس ومشاعر وأفكار وتأمُّلات نابعة من بَوتَقة الحياة، ورَهْبَة الوُجود وجِدّيّته.

أوّلًا: نحنُ والماضِي
نحنُ شعبٌ لا يستهويه في الحياة –على الصّعيد القوميّ والجغرافيّ والدّينيّ– إلَّا التّباهي بماضِي الأجداد وأمجادهم. فنتذكّر عظمةَ القدماء المصريّين، وثراء آباء الكنيسة، وانتصارات الجيوش الإسلاميّة، وشجاعة المُصلِحين البروتستانت، وانفتاح الكَنيسة الكاثوليكيّة وثقافتها في العالم بأسره (عدا شعبنا). فنحنُ نقبع ونستكين تحت ظلالِ ماضٍ مجيد قد أصبح في خبر كان، ولم يتبقَّ منه إلَّا ومضات نادرة، وتاريخ عريق، ونموذج للاقتداء به واقْتفَاء أَثَرِه؛ وننسى أو نتناسى أنّنا مطالبون بمواكبة العصر، والتّفاعل معه، ونَحْت بصماتنا فيه، كما فعل من قبل أجدادنا وأسلافنا. نحنُ أصبحنا نزلاء الماضِي وسُكَّانه، قلبًا وقالبًا، شكلًا وموضوعًا؛ ونعيش في ماضٍ نبالغ في تضخيم أمجاده، لخوفنا من مواجهة جِدّيّة الحاضر والمستقبَل.

نحنُ لسنا بأحفاد حقيقيّين لأجدادنا، ولا وَرَثَة أصلاء لهم؛ فهل نحنُ يا تُرى سقطة من سقطات تطوُّر التّاريخ وتقدُّمه؟ نحن مستهلكون لكلّ شيء، حتّى لماضِي الأجداد وتُراثهم: هم يحثّوننا –بتاريخهم وأعمالهم وكِتاباتهم– على المُضِيّ قَدَمًا، والسّير إلى الأمام، واستكمال ما وصلت إليه مسيرتهم الحافلة بالأشجار اليافعة والثّمار اليانعة، ونحنُ نصرّ على العَيْش في الأوهام التي رسمنها في مُخَيِّلتنا عن ماضِهم. نحن بحقٍّ "ظاهرة صوتيّة" (عبد الله القصيمي) لصدى رنين الماضِي والنُّوستالجيا (الحنين إلى ماضٍ مثاليّ).

وإذا حاول أحدُنا النُّهوض والتّحرُّك نحو الأمام، تجذبه أيادي عديدة –بشتّى الطّرق– للمكوث في سبات الأموات، بل وقد نعنّفه حتّى لا يترك منطق القطيع والعقل الجَمعِيّ المريحين. أجل، نحنُ أبناءٌ طبيعيّون للأجيال السّالفة، ولكنَّ نَكْبَتنا تكمن في أنّنا لسنا بأبناء أصليّين وأصلاء للأجيال الماضِية، ولا بآباء حقيقيّين ونُجباء للأجيال القادِمة، ولا حتّى إخوة صادقين وأمناء للأجيال الحاضِرة. وبعبارة وجيزة يسكنها الحزن والدّمع، نحنُ شَعْبٌ يَتَقَهْقَر ويَتَقَهْقَر، لكي ينتحر بعيون مَعْصُوبة من على سطح ذكرياته. لقد صدق جبران خليل جبران حينما كتب: «إنّ بَليّة الأبناء في هبات الآباء، ومَن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه، وأجداده، يظلّ عبد الأموات حتى يصير من الأموات».

ثانيًا: ما بين "التَّقليد" و"النَّزعة التّقليديّة"
لعلّ ما ذُكِر للتَّوِّ يقترب –نوعًا ما– من وصف الفرق والفارق بين "التّقليد" الأصيل و"النّزعة التّقليديّة" الزّائفة والضّارة والمُضِرّة! وبدون التّعرُّض لمعنى "التّقليد" لُغةً (اليونانيّة واللّاتينيّة والعربيّة) واصطِلاحًا (في المفهوم العامّ، وفي المفهوم المسيحيّ الخاصّ)، يمكن الإشارة فقط إلى أنّ التّقليد هو الإيمان الحيّ النّاجم عن الأموات الذين سبقونا ("إيمان أمواتنا الحيّ")، والنّزعة التّقليديّة هي الإيمان الميّت للأحياء الحاضِرين والرّاهنين ("إيمان الأحياء الميّت"). وقد قال البابا فرنسيس في هذا الصّدد، في عظته بـ"ملعب الكومنولث" في كندا (26 يوليو/تموز 2022):

«إلى جانب كوننا أبناء تاريخ يجب أن نحافظ عليه، نحن صنّاعُ تاريخ يجب بناؤه [...] الذين سبقونا نقلوا إلينا حبًّا وقوّة وتوقًا ونارًا علينا إحياؤها. ليست مهمتنا المحافظة على الرّماد، بل علينا إحياء النار التي أشعلوها. كان أجدادنا وكبارنا يرغبون في رؤية عالم أكثر عدلًا وأكثر أخوّة وأكثر تضامنًا، وقد كافحوا من أجل أن يعطونا مستقبَلًا. الآن، علينا ألّا نخيِّب آمالهم. وعلينا أن نتولى مسؤوليّة هذا التقليد الذي قبلناه منهم، لأنّ التقليد هو إيمان أمواتنا الحيّ. من فضلكم، لا تحَولوه إلى تقليد جاف، أي إلى إيمان الأحياء الميّت، كما قال أحد المفكّرين. آباؤنا هم جذورنا وسندنا، وعلينا الآن أن نؤتي ثمرًا. نحن الفروع التي يجب أن تُزهر وأن تضع بذورًا جديدة في التاريخ».

ثالثًا: الأَحْفَادُ والأَجْدَاد
لا شكّ أنّنا نحنُ –كأَحْفاد وأجيال حاضرة– نعرف أكثر من أجدادنا وأسلافنا وأجيالنا السّابقة، وندرك عنهم أكثر ممّا عرفوه هم عن أنفسهم، وعن أزمنتهم، وعن عالمهم، وعنّا. ليس لأنّهم لم يعرفوا عنّا إلَّا القليل فحسب، ونحنُ بفضل الزّمن المنصرم بعدهم نعرفهم أكثر، وندرك الكثير عن أجيالهم وأزمنتهم، ومن نواحي عدّة ومتنوّعة؛ وإنّما لأنّنا نحنُ قد سمعنا منهم وعنهم، ممّا يعمّق ويوسّع معرفتنا بهم، وأمّا هم فربّما لم يسمعوا عنّا قط. وبهذا المعنى، فنحنُ أفضل حالًا في المعرفة والإدراك، وإنْ كانوا هم قد سبقونا، وأصل وُجودنا ومعرفتنا وإدراكنا. فكما يُقال بحقٍّ، نحنُ مجرّد "أَقْزَام يجلسون على أكتاف العمالقة".
إنّ وُجودنا ومعرفتنا هما بفضل وُجودهم ومعرفتهم، ولا وُجود ومعرفة لنا بلا أجدادنا وأسلافنا. فلا ثَمّة أحفاد بلا أجداد، ولا أجداد بلا أحفاد؛ فالأجداد هم مَن صنعونا، ونحن مَن صنعنا أجدادنا. إنّها عَلَاقة جدليّة حقيقيّة وواقعيّة وديناميكيّة، فأجدادنا هم أحفاد في الماضِي وأصحاب له، ونحنُ أحفاد في الحاضِر وأصحاب له، والأجيال القادِمة أحفاد في المستقبَل وأصحاب له. ومَن لا يعرف أن يكون حفيدًا أصيلًا وأمينًا، لا يمكنه أن يكون جَدًّا أصيلًا وأمينًا. أجدادنا هم الماضِي (الذّكرى)، ونحنُ الحاضِر (الاستمراريّة والآنيّة)، وثَمّة مستقبَلٌ قادِم (مُفعم بالرّجاء) بفضل الماضي والحاضر.       

رابعًا: البحثُ الدَّؤوب عن مَعْنَى الوُجُود والحياة
متأصّلين في ماضِينا (بأمجاده وسقطاته)، ومتطلّعين إلى مستقبَلنا (بإيمان راسخ ورجاء حيّ)، ينبغي علينا أن نبحث جَاهِدين عن المعنى الأخير للوُجود والحياة؛ فبدونه لن نعرف ماهيّة حاضِرنا، ولا كيف نحياه بأصالة وجِدّيّة. إنّ الحياة برمّتها بحثٌ دَؤوب عن معنى الوُجود العامّ والخاصّ؛ ومعنى الوُجود لهو شغفٌ ووَلَع بالحياة، وبحث دَؤوب عنها، بل هو الحياة عينها. فالحياةُ والمعنى هما، إذًا، وجهان لعُمْلة واحدة، إذ إنّ الحياة معنى، والمعنى حياة؛ وحياة بلا معنى ليست بحياة، ومعنى بلا حياة ليس بمعنى.

ولذا، فمَن شاء "الحياة"، فليبحث عن المعنى الأخير؛ وإنْ سَعَى وراء هذا "المعنى"، لوجد الحياة، فهذا السّعْي والتّوْق للمعنى هو الحياة عينها. وأمَّا إذا كانت لفظة "الله" تشير إلى الحياة والمعنى الأصِيلَيْن، وإلى عمقهما ونبعهما، فمِن هنا يتّضح أوّل ما يتّضح أنّ "الله" و"الحياة" و"المعنى" مُرادفات، بل وقائع وأسرار تعلن الحقيقة عينها، أي السِّرّ المطلق الذي يغلّف وُجودنا ومعرفتنا، ويكمن وراء حياتنا، والمعنى الأخير للمعاني كلّها. إنّه السِّرّ الأصليّ والأصيل الذي "فيهِ حَياتُنا وحَرَكَتُنا وكِيانُنا" (رسل 17/ 28).  

خُلاصةٌ
ما العُمْر إلَّا رحلة قصيرة، لها بداية ونهاية، وفيها محطَّات ومراحل؛ والمهمّ هو ما وراء هذه الرّحلة. وأمَّا الموت فهو باب، والمهمّ هو ما وراء هذا الباب. إنّ ما يكمن "وراء" الحياة والموت هو ما يُعطِي لهما معنى، ويُعطِي معنى لما هو "بينهما"؛ فالماورائيَّات هي إذًا مستقبَل ومعنى ومحرّك الآنيّات، وما يُعاش في الحاضر. فكما قال بسكال –على حقٍّ، «الإيمان المسيحيّ ليس وسيلة لطرد الخوف من الموت، بل يساعدنا لمواجهته. عاجلًا أم آجلًا، سنمُرُّ جميعًا بهذا الباب... والنّور الحقيقيّ الذي ينير سرّ الموت يأتي من قيامة المسيح».