نيفين مسعد
لا يوجد تفسير محدّد لأن آخر ثلاثة مقالات لى تتعلّق بالطعام من حلويات وسمك وخلافه. وبشكل عام فإن الشخص الذى تستهويه الكتابة لا يعرف من أين تأتيه الفكرة بالضبط، فهو يجد نفسه فجأة محاصرًا بخاطر معيّن يطارده ويطيّر النوم من عينه، فإما ينقله إلى الورق ويرتاح، وإما يكبحه ويتوتّر، ونحن لا ينقصنا التوتّر.
• • •
أدّت الارتفاعات المتتالية فى الأسعار إلى لجوء بعض التجّار للتحايل على المستهلكين بطرق ساذجة لكنها تغيظ. يقومون بخفض وزن البضائع أو تقليل حجمها مع الحفاظ على نفس أسعارها- ظنًا منهم أننا لا ننتبه، وفى هذا الظن إساءة لمستوى إدراكنا. وهكذا اعتاد الواحد منّا أن يجد ساندوتش الشاورما مثلًا يتحوّل إلى لقمة واحدة لا تتكرّر، ومن هذه المنصّة الصحفية أوّد أن أحيى المطعم الشهير الذى اتخّذ لنفسه من سنين طويلة اسم لقمة وكأنه كان يقرأ الغيب ويتنبأ بالتطوّر الطبيعى للأشياء، وهذا هو الاستشراف السليم للمستقبل. وأصبح الواحد منّا حين يصاب بدور برد بسيط يجد أن المناديل الورقية تنفد منذ اليوم الأول. ولا أستبعد أن التجّار لو كانوا يملكون القدرة على التلاعب بحجم الخضروات والفاكهة لما تردّدوا فى التلاعب. تلك الحيل إذن موجودة وشائعة ومعروفة، لكن الجديد هو اختصار الوقت الذى يتطوّر فيه حجم الأشياء من xx large إلى small.
• • •
قبل بضعة أيام كنّا نحتفل بعروسين جديدين من أبناء بعض المعارف شاءت الظروف أن نكون سببًا فى علاقة الحب التى جمعَت بينهما، مع العلم بأن التوسّط فى هذا النوع من العلاقات محفوف بالمخاطر. كان عدد الضيوف ستة بالإضافة إلى ثلاثة من أصحاب البيت، وبالتالى كان الاكتفاء بتورتة متوسطة الحجم مع طبق بسبوسة بالقشطة والمعجّنات والساندوتشات يبدو مناسبًا. أرسلت السائق إلى محّل الحلويات الذى اعتدنا أن نتعامل معه، وكنّا قد اشترينا من نفس المحّل نفس نوع التورتة فى منتصف شهر سبتمبر الماضى ولاحظنا حينها أنها تعرّضت لدايت قاسٍ أطار ثلث حجمها على الأقل، لكنها مع ذلك كانت تكفى عشرة أشخاص. أما الذى لم أعمل حسابه فهو أن ينزل التخفيض مرةً أخرى على حجم التورتة لينتقل من الرشاقة إلى الهزال فى أقل من خمسين يومًا. وهكذا فعندما اتصّل بى السائق وهو فى المحّل ليحذّرنى من أن التورتة المطلوبة صارت فى حجم ورق الـ A4 ظننت أنه يبالغ ولم آخذ تحذيره على محمل الجدّ. قلت له بقلبٍ جامد: توكّل على الله واشتريها.
• • •
وصلَت التورتة فى علبة كرتونية ضخمة، واستقرّت فوق المائدة وأخذَت وضعها اللائق. أتى المدعوون وأخذنا الحديث فى كل اتجاه. تلألأت الدبلتان الذهبيتان فى إصبعى العروسين وأعادنى خجلهما وفضولهما وتهامسهما إلى زمان وأيام زمان، ثم توجّهنا جميعًا لافتتاح البوفيه. تمسّكت بحقى فى فك الشريط اللاصق فلحظة كشف الغطاء كلحظة قصّ الشريط لها حلاوتها، وهكذا هى دائمًا بدايات الأشياء. تزحلّقت التورتة المسكينة وانزوت فى جانب العلبة يلّفها الفراغ من كل جانب.. ما هذا بالضبط؟ ذُهلت. كانت التورتة تعادل أربع أو خمَس قطع جاتوه لا أكثر، فماذا عن نصيب باقى الحضور؟ تذكّرت موقف فؤاد المهندس أو طبوزادة فى مسرحية أنا فين وانتى فين عندما فوجئ بأن وجبة إفطاره عبارة عن طعمياية واحدة، فظّل يكرّر لسلامة الياس أو صادق أفندى: طعمياية واحدة؟ طب كنت خليهم اتنين، تبقى واحدة فى إيدى وواحدة فى بُقى. ردعت نفسى بشدّة فالموقف سخيف على نحو لا يحتمل السخرية، والمدعوون الذين يدخلون بيتى لأول مرة تحلّقوا بالفعل حول المائدة ولا فرصة لتدارك الأمر. همس ابنى فى أذنى: أروح أجيب تورتة تانية زيها يا ماما؟ رددت عليه بمثل همسه لا.. لا يستحيل. تخيّلوا معى أن أطلب من المدعوين العودة إلى أماكنهم حتى يأتى لهم ابنى بتورتاية تانية أو طعمياية تانية كما فى المسرحية إياها، سخرية تانى؟. قضى الأمر ولم يعد بالإمكان تجميل الموقف. تبادلتُ وزوجى نظرات معناها إننا لن نذوق التورتة، فعِشرة أربعة عقود كفيلة بأن تفّك أى شفرة وتغنى عن الكلام، لكن هذا القرار وحده لم يكن يكفى. قامت والدة العريس بعمل زيارة ثانية للمينى تورتة ووقع قلبى فى رجلى، فمعنى ذلك ببساطة أن هناك شخصًا آخر لن يُكتب له أن يتذوّق التورتة الفضيحة. قالت أم العريس بصوت مسموع: التورتة طازة جدًا جدًا! أعرف يا ستى أعرف. عند الزيارة الثالثة لنفس السيدة كان لابد من التحرّك بسرعة فلم يعد يتبقّى سوى زيارة أخيرة من أم العريس للتورتة وينتهى كل شىء. جرّبوا البسبوسة يا جماعة.. قلت بصوتٍ مرتفع فلم يتفاعل معى أحد. هل أدعّم الحلويات بالآيس كريم الذى أحتفظ به عادةً للأحفاد؟ لا.. لا يجوز فالتورتة غير الآيس كريم. هل أستعين بجارتى الطيّبة التى اعتادت أن تنقذنى فى المواقف المحرجة؟ يا لها من فكرة عجيبة أن أفترض احتفاظ جارتى بتورتة إضافية ترسلها لى. وأخيرًا فُرِجت وكنت أظنها لا تُفرج.
• • •
مع أول قطعة بسبوسة وضعها العريس فى طبق عروسته بدأتُ أتنفّس الصعداء، ربنا يسعدك يا شيخ. حذوتُ حذوه من باب: الكلام لكِ يا جارة، وتوالى الإقبال على البسبوسة بشكلٍ مطمئن. لم أصدّق إنى تخلّصت من هذا الكابوس وأكواب الشاى بالنعناع تطوف على الضيوف بعد أن انتهوا من طعامهم. سألتنى أم العريس عن اسم الحلوانى الذى اشتريت منه المينى تورتة.. ممممم كيف لم تأخذ بالها من الاسم المكتوب بوضوح فوق العلبة؟ هل تتعمّد إحراجى؟ ليس لديها ما يبرّر. ادعيّت إننى أعصر ذهنى وأحاول تذكّر اسم الحلوانى، وبعد تفكير قلت: اسمه A4.. اسم غريب صح؟ هزّوا رءوسهم بالموافقة، وأُسدل الستار على ذلك.
نقلا عن الشروق