طارق الشناوى

عدد نادر من الأعمال الفنية تُشعرك عند التعاطى معها أنها فرضت نفسها على كاتبها، ولهذا يقولون إن الشاعر الملهم لا يكتب القصيدة.. تكتبه القصيدة.

شاهدت قبل نحو 13 عامًا فيلمًا تسجيليًّا طويلًا قدمته المخرجة والكاتبة هبة يسرى عن جدتها المطربة الكبيرة (شهر زاد) باسم (ستو زاد)، أعجبنى التوثيق لحياة مطربة انطلقت في زمن أم كلثوم، وفى توقيت ما اعتقدت أن (الست) لا ترحب بوجودها، عدد من أساطين الملحنين مثل رياض السنباطى الملحن الأول كمًّا وكيفًا على خريطة أم كلثوم، عندما يريد إثارة غضبها، يمنح لحنًا تلكأت (سيدة الغناء العربى) في تقديمه إلى تلميذتها النجيبة.

 

ما استوقفنى في الفيلم التسجيلى شيئان، أولًا أن المخرجة قدمت شريطًا دافئًا، ولا يكفى أبدًا صلة الدم، ولكن كيف انتقلت من الخاص إلى العام، نجحت في تصدير هذا الإحساس لنا. الثانى أنها تملك حسًّا دراميًّا في تصاعد الأحداث، هبة تعبر عما هو حميم بها، ولا يعنى أنها بالضرورة مثل (ستو زاد) أنها تقدم بالضبط الواقع؟.

 

لم أتوقف كثيرًا وأنا أشاهد فيلمها الروائى الأول عن الخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال، فقط تساءلت: كيف يغيب عن مبرمجى المهرجانات في بلدنا فيلم مصرى مثل (الهوى سلطان)، ولا يجد طريقه على الأقل داخل مصر، أتحدث عن (الجونة) ثم (القاهرة)؟!. مؤكد أنه كان من الممكن تأجيل عرض الفيلم تجاريًّا بضعة أيام ليلحق بـ(القاهرة)، كما أن (الجونة) الذي يعانى أيضًا شُح الأفلام المصرية، كيف فاته أن يقتنصه، هل المخرجة بطبعها لا تسعى للمهرجانات، أم أن المبرمجين لم يستشعروا تلك الأهمية للشريط؟، الإجابة الصحيحة هي الثانية.

 

تُشعرك هبة وكأنها تتحدث مع أصدقائها عن أصدقائها، أسلوب في السرد يكسر هذا الغلاف الزجاجى بين الشريط والمتلقى، فأنت تحطم معها هذا الإطار، الشاشة تعايشها وأنت تشاهدها.

 

لا يعنينى هل كانت تقدم تجربة حقيقية أو تصورت أنها حقيقية، والتوصيف الثانى يملك تحليلًا لمعنى الفن، الصدق لا يعنى بالحتمية، أن ترى الواقع ولكن أن تصدقه، وتلك هي الحقيقة الفنية، وصدقنا هبة وهى تروى الحكاية وكأنها حكايتها.

 

راهنت بعيدًا عن الصندوق المتعارف عليه، البطلة نجمة وقبل ذلك ممثلة موهوبة تذوب إبداعًا، منة شلبى، وذابت منة في الشخصية، قطعًا لم تكن المرة الأولى التي تلعب فيها البطولة.

 

هذه المرة الشريط يمتلك حسًّا جماهيريًّا، منة تتعامل مع الدور بقدر كبير من التلقائية في التعبير، وهى من أكثر النجوم وليس فقط النجمات في هذا الجيل امتلاكًا للعين القادرة على توصيل المعنى بكثافة بليغة، الرهان الموازى أحمد داوود، لمحة مختلفة أمسكت بها، الممثل وليس (الجان) بالمواصفات التقليدية، التي تعارفنا عليها. داوود لديه دائمًا طلة مختلفة في أدواره عنوانها البساطة.

 

أحمد خالد صالح، توظيف جيد جدًّا من المخرجة في إسناد هذا الدور إليه، شىء ثلجى في التعبير كان لابد من توفره.

 

صوتا جورج وسوف وبهاء سلطان، أتحدث عن النبرة وليس الكلمات واللحن ولا حتى الأداء، ولكن بحّة الصوت الطبيعية، لا أتحدث عن جمال أو اكتمال، ما يجمع جورج وبهاء أنهما أقرب إلى روح التلقائية، صوتان لا يخضعان لأى نوع من (الفلترة)، وهذا هو ما يعبر عن الشريط بكل مفرداته.

 

 

هل يستحق الفيلم بكل مفرداته عودة أخرى إلى قراءة أشد عمقًا في التصوير والموسيقى والمونتاج والديكور؟. نعم، يستحق في مساحة قادمة!!.

نقلا عن المصرى اليوم