أحمد الجمال
قبل أن ألبى نداء نداهة القراءة والكتابة، التى تكاد تجرنى من خناق جلبابى، لأكتب ثانية عن المؤرخ المصرى الفذ، مهضوم الحق، الدكتور محمد صبرى السوربونى، الذى يمثل إهماله صدمة عنيفة، وعن كتابه شديد الأهمية «نشأة الروح القومية المصرية ١٨٦٣-١٨٨٢»، وقد كتبه بالفرنسية وترجمه للعربية الأستاذ ناجى رمضان عطية، وراجع الترجمة.

وقدم لها الأستاذ الدكتور أحمد زكريا الشلق؛ أذهب إلى عمق الذاكرة التى تحتفظ منذ سبعين سنة بما كان بين النداهة وبينى، خاصة فى قيظ ظهر الصيف، والسكك شبه خالية من الناس والشجر- خاصة الجميز- ساكن الأوراق، حيث لا نسميه هواء يهز ورقه، والسخونة تفح من التراب ومن حواف أحواض الذرة الصيفى، طويل الأعواد مزدوج الكيزان.. والفراغ أمام البصر وإلى منتهاه يموج بما كنا نعتقد أنه غنم إبليس، حيث ينكسر ضوء الشمس بأشعته القوية عبر الهواء النقى ليظهر الانكسار على هيئة قطعان من التموجات، تتوالى فى صفوف متلاحقة وكأنها خراف وماعز!.

وكنت أقف مشدودًا ومشدوهًا، وربما مسحورًا، أركز فى الكائنات المتراصة على الحوائط التى بناها البعض من الموسرين حول مدافنهم، ثم يخترق سمعى صراخها المبحوح، الذى لا يسمعه سواى، وهى تنده «يا مبرووووكا يا منّاياااا»، تندهها مبحوحة ممطوطة، وأراها تتأهب للانطلاق من أعلى الجدران باتجاهى، لأخلع ما فى قدمى- ولا أذكر ما إذا كان صندلًا أم شبشبًا- وأضع طرف الجلابية الأسفل بين أسنانى لأجرى أو أفلسع، وكأننى أطير، وتكاد أعقابى أن تصطدم بقفاى! لقد كانت طيور الحدأة.

وكان الحادث الذى كانت مبروكة بطلته، وسكن عمق مشاعرنا أطفالًا، وربما أيضًا كبارًا، هو أنها كانت زوجة لأحد الخفراء، وكنا فى رمضان، ويقال إنه عاد من يوم عمل طويل وهو صائم، يتوزع جهده بين مشاوير طويلة سيرًا على الأقدام بتكليف من حضرة العمدة إلى المركز على مبعدة عشرة كيلومترات وبين أعمال أخرى فى دوار ومنزل وربما غيط حضرة العمدة؛ عاد ليجدها لم تعد طعامًا للإفطار الرمضانى، وحدث الاشتباك الكلامى الذى أنهاه بوضع فوهة البندقية الميرى فى رأسه وداس على الزناد، لترتعد القرية ويغادر الجميع مواقعهم على الطبالى، بعد أن سمعوا صوت الطلقة الخرطوش المدوى.. وككل من لاقى حتفه مقتولًا تظهر النداهة والعفريتة، وهما كائنتان تنتميان إلى عالم ما وراء الطبيعة، ولكل منهما هيئة ومهمة وتأثير وطريقة للتعامل ومنع الضرر.

وعبر الطفولة المبكرة والصبا والمراهقة عشت نداهة مبروووكا.. وعفريتة إحدى البنات وأمها أتذكر أنها «بلد وأمها» وكانتا فقيرتين «وشحاتين»، ولاحظ الجيران أنهما لم تخرجا كعادتهما للذهاب «للشحاتة» من القرى المجاورة، ثم فوجئوا بأن طيور البط التى كانتا تربيانها تسللت من تحت الباب المتهالك وهى تجرجر ما تبين أنه مصارين آدمية!.

ثم عشت عفريتة الحاج أنور، ذلك الرجل سليل الأسرة الكريمة الثرية، التى حازت العمدية، وتلقى تعليمه العالى فى الخارج، وتخرج فى الحقوق، ويبدو أنه تأثر بالأفكار والتوجهات الاشتراكية فى فرنسا، فرآه أهل القرية وهو ينزل من على الفرس المطهمة، مرتديًا أفخر وأفخم الملابس، ويتجه لمساعدة الأنفار الذين يشتلون شتلات الأرز فى الغيط الممتلئ بالماء المختلط بالطين، ويخوض بالجزمة والشراب فى الرُوبة، متبسطًا معهم عازمًا عليهم بالسجائر الماكينة- وليس اللف- ولم يكن يقبل من أثرياء وكبار ملاك الأرض فى القرية أى إهانة للأنفار، وتحول إلى بعبع لهؤلاء الكبار، خاصة فى موسم التحاريق عندما يتعين تطهير الترع، ويحاولون التنصل من المساهمة، رغم أن حيازاتهم كانت الأكبر، وبمجرد زغرة من الحاج أنور تخرج الفلوس من مكامنها فى ثنايا الصديريات تحت الجلابيب الصوف أم قياطين!.

وكان حظ القرية قليلًا أو منعدمًا، إذ كان الرجل فى مركز الشرطة ببسيون يحل بعض مشاكل الناس، واتجه إلى محطة قطار الدلتا عائدًا للقرية وكان القطار قد تحرك وركض ليلحقه فتشعبط فى المسافة الفاصلة بين عربتين، وخانته قدمه التى فلتت لتمر العجلات على جسده وبدأ نسج الأسطورة.. فالفرس الأصيلة تصهل وتخرج وحدها لتجرى فى الطرق التى اعتادت أن تحمله خلالها.

والعفريتة الملتاعة ظهرت فى مواكب حرائر نساء العائلة، والقريبات اللاتى لبسن السواد أو المصبوغ بالنيلة التى لطخن بها وجوههن ورؤوسهن ومضين يدرن فى داير القرية بالمقلوب، أى اتجهن يسارًا عند البداية، وتفننت الندابات فى الندب والعويل، وكن يحملن التراب ويحثونه على رؤوسهن، وجاءت النصائح بسكب العدس المطبوخ على عتبات وحلوق الأبواب الخارجية للدور، ودق حدوات الأحصنة بمسامير حدادى كبيرة فى العارضة العليا من الحلق، وإذا سمع أحد طرقًا على باب الدار قبل الفجر فعليه ألا يفتح.

أما القتيل الذى سكنت عفريتته، ولم تظهر له نداهة، فهو ضابط البوليس الذى اشتهر بالتفنن فى إذلال خلق الله، الذين يتصادف أن يذهبوا إلى النقطة، وزادت مظالمه حتى قرر أحدهم أن يكمن له فى جوف جسر المصرف الكبير المخيف، وانتظر مرور الدورية يتقدمها الضابط، ثم رشقه وأرداه.

ولأن ذلك المصرف الواسع العميق المخيف الذى يحمل صرف مصانع كفر الزيات ويمضى بين القرى حتى يصل لبحر البقر بالسائل الذى يمتلئ به، ولا يمكن وصفه بالمياه، وكان يعج بكل ما هو مخيف أكثر مما تفعله العفاريت.. ثعابين وأفاعٍ وعقارب وذئاب وسلعوة، فإن عفريته القتيل عجزت عن الظهور لشدة المنافسة!.
نقلا عن المصرى اليوم