حمدي رزق
ابتداء وانتهاء، توصية المفوضين من أعمال القضاء، ولا تعليق ولا تعقيب، والقاضى لا يمدح ولا يذم، وأخشى الحفاوة الظاهرة بالتوصية (غير الملزمة) تؤثر على أعمال القضاء، والقاضى يحكم بما استقر فى ضميره، وليس على هوى الشارع الصاخب رفضًا لفيلم (الملحد)، لم يره سوى صانعيه، ونفر قليل بحكم أعمال التقاضى.

مصادفة زمنية تقول الكثير.. صدور تقرير المفوضين، الذى تسلمته المحكمة استعدادًا لإصدار القرار النهائى بشأن فيلم «الملحد» والتوصية بمنع عرضه، صادف افتتاح دورة مهرجان القاهرة السينمائى الخامسة والأربعين، كان حريًا بنجوم السينما الوقوف دقيقة حدادًا على روح الفيلم الموؤود، أنتم السابقون، وكلنا لها، وسعيكم السينمائى مشكور.

أتخيل احتفالية افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى يوم منع عرض فيلم «الملحد» سرادق عزاء أنواره اللامعة تخفى حزنا عميقا على وفاة مولود من مواليد السينما المصرية.

منع عرض الفيلم تترجم وفاته فى المهد، والوفاة فى المهد محيرة طبيا، لا يُعرف سببُ مُتلازمة مَوتِ الرَّضيعِ الفُجائِىّ.. وكذا سينمائيًا، لا يعرف سبب متلازمة منع عرض الفيلم، ووأده حيا!!

ما لفتنى غبطة جماعة «المحتسبون الجدد» وبطانتهم بمنع عرض الفيلم، يزعمون أن توصية المفوضين التى قد تأخذ بها محكمة القضاء الإدارى أو ترفضها، انتصار للدين الإسلامى، فإن رفضتها المحكمة هل يترجم هذا الرفض انكسارًا للدين الإسلامى!!.

ما هكذا تورد الإبل، المفوضين هيئة استشارية قضائية وليست هيئة فتوية دينية، والفيلم وليس الإسلام محل القضية..

غريب أمرهم، هل فيلم مهما كان شططه فكريا، يمس دينا سماويا، أو يهدد إيمانا راسخا، أو يحرف الناس عن قبلتهم، أذكر أن فيلم «بحب السيما» صار أيقونة سينمائية، ولم يمس ثابتا، ولم يهدد دينا، وشاهده الملايين محبة فى السينما..

أسمع فى الجوار تهليلًا وتكبيرًا، وحديث النصر على أعداء الإسلام والمسلمين، والمحتسبون الجدد يسجدون لله شكرا، اللهم أعز الإسلام، وانصر المسلمين، وعليهم يا رب أعداءك وأعداء الدين، ولولا قبضة وزارة الأوقاف على مساجدها لسمعنا خطبًا منبرية تحسبن على الفن السابع وأهله.

فيلم «الملحد» عمل سينمائى يناقش ظاهرة «الإلحاد» بجرأة يحسد عليها صانعوها، تنقصنا الجرأة المجتمعية على مناقشة أمراضنا الفكرية، ورثنا حزمة أمراض متوطنة وسارية، أعراضها ظاهرة لا تخطئها عين، ومنها مصادرة الفكرة قبل ولادتها، إنهم يئدون الأفكار جريًا على عادة إسلافهم فى وأد البنات، نفس المنهج يحكم القبيلة.

أُكلنا يوم أُكِل الثور الأبيض.. عندما تماهى مثقفون مع المحتسبين الجدد فى رفض الفيلم من اسمه، وعندما رضخت المؤسسات المعنية لمشيئة المحتسبين الجدد فأجلت عرضه، وعندما تقرر عرض الفيلم على لجنة من المعممين هروبًا من المسؤولية، وعندما تقاعس السينمائيون عن دعم الفيلم، هم عنه غافلون، يحتفلون بعرس السينما السنوى، دون التفاتة إلى حزن السنين، وعندما جفل أصحاب الرأى عن الدفاع عن حرية التفكير مخافة التكفير..

عرض الفيلم مهما بلغت جرأته الفكرية، ومناقشته على أرضية عقلية، ودحض أفكاره بمنهجية، من علامات الصحة المجتمعية، القوة الناعمة لا تعامل بالمنع، ولا تزدهر بالمصادرة، والسينما مكانها دور العرض ليس ساحات المحاكم، ويحكم فيها النقاد الثقات.

مصادفة الأربعاء تترجم ليس افتتاحا بهيجا لمهرجان السينما، بل أقرب لحفل تأبين لسينما عمرت مائة عام ونيفًا من السنين، العمر الطويل لكم.
نقلا عن المصرى اليوم