أحمد الخميسي 
منذ عدة أيام أثار د. حسين حمودة موضوع اللغة عند نجيب محفوظ في مقال بجريدة اليوم السابع من زاوية ما إن كانت شخصيات محفوظ تتحدث لغة واحدة أم أن لغته كانت تتلون مع اختلاف الشخصيات؟ وما إن كان هناك مستوى لغوي واحد ثابت ودائم في كل أعمال الكاتب مع كل شخصيات نصوصه؟ وانتهى حمودة إلى أن لغات الشخصيات تتعدد مستوياتها وتتباين من شخصية لأخرى، واستشهد بنماذج من روايات محفوظ مثل قوله:" قم بنا"، و" يا ألف نهار أبيض"، وعبارات مثل: " أنت صاحب بيت"، و" لا مؤاخذة"، و" في عرضك"، ثم: "بصنعة لطافة" وأيضا  "ركبي سابت".
 
وكلها عبارات وتراكيب مشبعة بمفردات وتراكيب العامية.
 
جدير بالذكر أن كل تلك المفردات التي استخدمها محفوظ هي فصيحة أصلا، ولكن محفوظ جرها إلى الاشهار عن فصاحتها، وبهذا الصدد قال محفوظ ذات مرة إنها: " لغة فصحى ترتدي ملاءة لف"، أي مشبعة بروح التراكيب العامية. وعامة كان موقف محفوظ من العامية واضحا، فقد رفض الكتابة بها أصلا، وكان يعدها ظاهرة ناجمة عن عدم انتشار التعليم. ومبدأ تفصيح العامية، أو" الفصحى في ملاءة لف" يقوم على اكتشاف الفصحى داخل العامية، وقد سبق يحيي حقي الجميع إلى ذلك، وأبدع فيه الكثير، وانظر مثلا إلى حقي حين كتب: " تتباهى القرعاء بشعر بنت أختها" وهذه العبارة من ناحية فصيحة مئة بالمئة لكنها مشبعة بروح الاستخدام العامي، أو حين يستخدم حقي عبارة أخرى عجيبة مثل:"عقله فسافيسي"، وهي جملة قد تبدو بعيدة عن الفصحى، لكنها سليمة وفصيحة تماما، إذ تشير المعاجم إلى:" رجل فسفاس" هو رجل شديد الحماقة. ويكتب حقي أيضا:" حياة فلان سبهللا " وهي فصيحة من روح العامية، إذ يرد في المعاجم أنه:" مشى الرجل سبهللا، أي مختالا يروح ويجيء بلا عمل" ! ويكتب أيضا:" كلامه فاشوش في فاشوش"، وسنجد في المعاجم أن الفاشوش من الأشياء هو ما لا فائدة منه.
 
وهكذا يمد يحيي حقي همزة وصل مبدعة وعبقرية بين اللهجة واللغة لم يسبقه إليها أحد، بينما اقتصر جهد توفيق الحكيم في اللغة على دعوته إلى لغة ميسرة، وجهد نجيب محفوظ على تطوير اللغة الأدبية القائمة بالفعل، أي تجنب المهجور منها، بل ان محفوظ ظل يكتب " النادل " زمنا طويلا حتى قرر استخدام كلمة" جرسون".
 
جدير بالانتباه أن اللغة ليست الأدب، وفي هذا المضمار سنجد خطابات مشبعة بالبلاغة، لكنها ليست الأدب، مثال ذلك خطابات مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومكرم عبيد صاحب أشهر عبارة بليغة:" نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا"وتندرج كل تلك العبارات في اللغة لكنها ليست أدبا، بينما الأدب لغة، كله لغة، وإذا لم تكن هناك لغة فليس هناك تعبير دقيق، وإذا لم تكن هناك لغة فليس هناك تصوير، ولا حتى بلوغ الحقيقة الأدبية.
 
الأدب لغة، لهذا من المهم للغاية أن نفكر في الحفاظ على اللغة العربية، لأنها ركيزة الثقافة العربية، ولأننا إذا اعتمدنا اللهجات في الكتابة فسوف نكتب في مصر وحدها بأربع لهجات: الصعيد، والمدن، والسواحل، وسيناء، مما يعني أن ندمر وظيفة اللغة الأساسية وهي الحفاظ على الرابطة القومية المصرية، ومن هنا كانت محاولات يحيي حقي، والحكيم، وتيمور، ومحفوظ لاكتشاف الصلة بين العامية والفصحى وتوثيق الارتباط بينهما.