محرر الأقباط متحدون
"لا يجب علينا أن ننظر فقط إلى المشاكل الكبيرة للفقر في العالم، وإنما إلى القليل الذي يمكننا جميعًا أن نفعله كل يوم: من خلال أسلوب حياتنا، بالعناية والاهتمام بالبيئة التي نعيش فيها، بالسعي الدؤوب لتحقيق العدالة، بمشاركة خيورنا مع من هم أفقر منا، بالالتزام الاجتماعي والسياسي لتحسين الواقع من حولنا" هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القداس الإلهي بمناسبة اليوم العالمي الثامن للفقراء
 
بمناسبة اليوم العالمي الثامن للفقراء الذي يُحتفل به هذا العام تحت عنوان "صلاة الفقير تبلغ إلى أُذُنَي الرب"، ترأس قداسة البابا فرنسيس صباح الأحد القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها إنَّ الكلمات التي سمعناها للتو قد تثير فينا مشاعر الكرب؛ لكنها في الواقع إعلان عظيم للرجاء. في الواقع، إذا كان يسوع يبدو من جهة وكأنه يصف الحالة الذهنية للذين رأوا دمار أورشليم وظنوا أن النهاية قد حانت، فهو في الوقت عينه يعلن شيئًا غير عادي: في ساعة الظلمة واليأس، عندما يبدو أنَّ كل شيء ينهار تمامًا، يأتي الله، ويقترب، ويجمعنا لكي يخلّصنا.
 
تابع البابا فرنسيس يقول يدعونا يسوع لكي نتحلّى بنظرة أكثر حدة، ولكي تكون لنا عيون قادرة على أن تقرأ داخل أحداث التاريخ، لكي نكتشف أنه حتى في كرب قلوبنا وزمننا، هناك رجاء يسطع ولا يتزعزع. في هذا اليوم العالمي للفقراء، إذن، لنتوقف بالتحديد عند هاتين الحقيقتين: الحزن والرجاء، اللتين تتحديان بعضهما البعض على الدوام في ميدان قلوبنا.
 
أضاف الأب الأقدس يقول أولاً، الحزن. إنه شعور منتشر في عصرنا، حيث يضخم التواصل الاجتماعي المشاكل والجراح، ويجعل العالم أكثر انعدامًا للأمان والمستقبل أكثر غموضًا. حتى إنجيل اليوم يُفتتح بصورة تُسقط محنة الشعب على الكون، ويقوم بذلك مستخدماً لغة رؤيوية: تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات". إذا توقفت أنظارنا عند وقائع الأحداث فقط، سيسيطر الحزن علينا. واليوم أيضًا، في الواقع، نرى الشمس تظلم والقمر ينطفئ، ونرى الجوع والمجاعة اللذين يعذبان الكثير من الإخوة والأخوات، ونرى أهوال الحرب وموت الأبرياء؛ وأمام هذا المشهد نخاطر بأن نغرق في الإحباط وألا نتنبّه لحضور الله في مأساة التاريخ. وهكذا، نحكم على أنفسنا بالعجز؛ نرى الظلم الذي يسبب آلام الفقراء يتزايد من حولنا، لكننا ننضم إلى التيار المستسلم للذين يعتقدون، بدافع الراحة أو الكسل، أن "العالم يسير على هذا النحو" و"ليس بوسعي أن أفعل شيئًا حيال ذلك". عندئذ حتى الإيمان المسيحي نفسه يُختزل إلى مجرد عبادة غير مؤذية، لا تزعج قوى هذا العالم ولا تولد التزامًا ملموسًا في المحبّة. وبينما يُحكم على جزء من العالم بالعيش في مياه التاريخ الضحلة، وبينما تتزايد الفوارق ويزداد التفاوت ويعاقب الاقتصاد الأشخاص الأكثر ضعفًا، وبينما يكرّس المجتمع نفسه لعبادة المال والاستهلاك، يحدث ألا يتمكن الفقراء والمهمّشون من أن يفعلوا شيئًا سوى الاستمرار في الانتظار.
 
ولكن تابع الحبر الأعظم يقول ها هو يسوع، في وسط ذلك المشهد المروِّع، يشعل الرجاء. هو يُشرِّع الأفق، ويوسّع نظرنا لكي نتعلّم أن نتنبّه، حتى في هشاشة العالم وآلامه، لحضور محبة الله الذي يقترب منا، ولا يتخلى عنا، ويعمل من أجل خلاصنا. في الواقع، عندما تظلم الشمس، ويتوقف القمر عن إرسال ضَوئه، وتتساقط النجوم من السماء، يقول الإنجيل: "حينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال"، و"يَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إِلى أَقْصى السَّماء". بهذه الكلمات، يشير يسوع أولاً إلى موته الذي سيحدث بعد ذلك بقليل. على الجلجلة، في الواقع، ستُظلم الشمس، وستحلّ الظلمة على العالم؛ ولكن في تلك اللحظة بالذات، سيأتي ابن الإنسان على الغمام، لأن قوة قيامته ستكسر قيود الموت، وستنبعث حياة الله الأبدية من ظلمة القبر، وسيولد عالم جديد من بين أنقاض تاريخ يجرحه الشر.
أضاف الأب الأقدس يقول هذا هو الرجاء الذي يريد يسوع أن يسلّمنا إياه. ويقوم بذلك أيضًا من خلال صورة جميلة: "مِنَ التِّينَةِ خُذوا العِبرَة" – يقول – "فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب". وبالطريقة عينها، نحن أيضًا مدعوون إلى قراءة أوضاع تاريخنا الأرضي: فحيث يبدو لنا أنه لا يوجد سوى الظلم والألم والفقر، في تلك اللحظة المأساويّة بالذات، يقترب الرب لكي يحررنا من العبودية ويجعل الحياة تسطع. ونحن، تلاميذه، يمكننا بفضل الروح القدس، أن نزرع هذا الرجاء في العالم. نحن الذين يمكنهم وعليهم أن يضيئوا أنوار العدالة والتضامن بينما تتكاثف ظلال العالم المنغلق. نحن هم الذين تجعلنا نعمته نضيء، وحياتنا المجبولة في الرحمة والمحبة هي التي تصبح علامة لحضور الرب، القريب دائمًا من آلام الفقراء لكي يبلسم جراحهم ويغير مصيرهم.
 
تابع الحبر الأعظم يقول أيها الإخوة والأخوات، لا ننسينَّ أبدًا: إن الرجاء المسيحي الذي تحقق في يسوع ويتحقق في ملكوته يحتاج إلينا وإلى التزامنا، وإلى إيمان يعمل في المحبة، وإلى مسيحيين لا يلتفتون إلى الجهة الأخرى. قال أحد لاهوتيي القرن العشرين على الإيمان المسيحي أن يولّد فينا "روحانية بعيون مفتوحة": لا روحانية تهرب من العالم وإنما على العكس، إيمان يفتح العيون على آلام العالم وتعاسة الفقراء لكي يمارس شفقة المسيح عينها. ولا يجب علينا أن ننظر فقط إلى المشاكل الكبيرة للفقر في العالم، وإنما إلى القليل الذي يمكننا جميعًا أن نفعله كل يوم: من خلال أسلوب حياتنا، بالعناية والاهتمام بالبيئة التي نعيش فيها، بالسعي الدؤوب لتحقيق العدالة، بمشاركة خيورنا مع من هم أفقر منا، بالالتزام الاجتماعي والسياسي لتحسين الواقع من حولنا. قد يبدو هذا الأمر قليلًا بالنسبة لنا، لكن القليل الذي سنقوم به سيكون مثل الأوراق الأولى التي تنبت على شجرة التين: استباق للصيف الذي أصبح قريبًا.
 
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيها الأصدقاء الأعزاء، في هذا اليوم العالمي للفقراء يطيب لي أن أذكر تحذيرًا للكاردينال مارتيني. لقد قال إنه علينا أن نتنبّه للتفكير في أن هناك أولاً الكنيسة، الراسخة في ذاتها، ثم الفقراء الذين نختار أن نعتني بهم. في الواقع، نحن نصبح كنيسة يسوع بقدر ما نخدم الفقراء، لأنه بهذه الطريقة فقط "تصبح الكنيسة "نفسها"، أي بيتًا مفتوحًا للجميع، ومكانًا لرحمة الله لحياة كل إنسان". أقول هذا للكنيسة، وأقول هذا لحكومات الدول والمنظمات الدولية، وأقوله لكل فرد: من فضلكم، لا ننسينَّ الفقراء.