بقلم الاستاذ شريف البدرى
الذين لا ينظرون الى السماء( ٣) فلما جن  الليل على مدينتنا أخذها النعاس وتغشاها بعيدا عن الكون فحملت بأحلام أبريائها. وسكنت الرياح لترأف بأحلام المدينه ،وتمايل النخيل صامتا محتضنا ليل مدينتنا. يزورنا الليل كل يوم فتختبئ في عباءته بيوت المدينه كأنها القبور يموت فيها كل شيء ويفنى.     تموت آمالنا كل يوم وتبقى لنا الذكرى الأليمه تداعب خيال الابرياء حتى تقتل أعمارهم سرابا.

        وحده البؤس لم يمت يوما واحدا يحملق صامدا في وجه الزمن يرث الاجيال يفنيهم دون كلل وملل. وعلى أطراف المدينة كوخ صغير إذا مر عليه الليل حسبه قطعا ممزقا من ردائه الاسود . يبيت فيه عجوزا لم يعرف له اهل المدينه اصلا لكن العامة عظموه وسموه سيدنا مهدي وحكوا عن بركاته وتوجوه قديما مدينتنا.  واذا استيقظ  الصباح حج اليه التعساء والبؤساء ومن استعصت عليهم حاجاتهم يتسولون بصيصا من أمل.      

 ما أنكي ما يكابد هؤلاء المساكين من مصائب الزمن وقهر الرجال ! وما أقسى الحياه تنظر إليهم بقلب الثأر وعين الاستكثار !  ألم يكفها ما هم فيهم من عوز وجهل وشجن؟!

 ما يوشك أن ينجو أحدهم من مصيبه حتى ألقت على كاهله الاشد! ما يجدي الحياه أن تبتهج ابتهاجا حينما تنهش أجساد المساكين وتلعق دمائهم ؟! ما يفرحها من دموع الثكالى وأناتهم ؟! أم انها تنتقم من ابن آدم وقد وهبته روحها ثم ما لبث ان قتل قابيل أخاه هابيل، وعاث ابن ادم فسادا في البر والبحر...ولكن اي ذنب اقترفته مدينتنا لتكفر عن خطايا البشريه وحدها ؟!  أن مدينتنا ليست كل الدنيا وأهلها ليسوا كل الناس ولم يكن منهم المخلص المفدي.

 إن اهل مدينتنا كسائر من في المدن أعجزهم العوز واغتال الصمت مروءتهم.
 ولما بزغ الفجر وعلت أصوات المؤذن تعانق السماوات ما هي إلا هنيهة ليبعث الناس في مدينتنا ليوم جديد يوم خبز وعمل.

 وفجأه اخترق صراخ سيدنا المهدي أسماع المدينه كلها وزلزل أبوابها بابا بابا يفزع الكبير والصغير ، يركض سيدنا مهدي في كل أرجاء المدينه وينادي على أصحابها كأنه يستغيث ويستنجد بهم ،فاجتمع عليه ثلة من اهلها فنادى سيدنا  المهدي: أنتم نيام أشعل الله مضاجعكم أنيام  انتم وقد أصابتكم لعنة السماء؟! الهلاك قريب لا محالة !

ونادى في الفلاح والعامل والشحاذ، فتقدم مزارع فقير وقال يا سيدنا: ما فعلت شرا قط سوى أنني منذ زمن أزرع الحقول وأعود في آخر اليوم بقليل من خبز  طعام .

 احرث وأحصد لهم ما يشاءون ولم أشكو يوما ، وصمت المزارع الفقير ونظر بعيدا كأنه يستذكر شيئا وقال: لكنني ربما يوما واحدا طلبت من صاحب الحقل ان يزيدني من الخبز وبعض الطعام الذي لا يكفي ليسد رمقنا . فيجيبه سيدنا المهدي :انت مذنب لكنه ليس هذا الذنب وحده لقد رأيتك في منامي وثمارك تشعلها نار ذنبك . فيصرخ المزارع خوفا، سيدنا المهدي: سل ضميرك أيها الفلاح هذا الضمير الميت ونقب بفأسك فيه أن من يزرع ليطعم غيره انما يشبعه ان يرى غيره سعيدا . فيجيب هذا المزارع:

 يا سيدنا أنا اأشبع إذا سعد الناس وطعموا لكن لابنائي بطون خاويه لا يسعدها ذلك .

وفجأه يدخل عامل المنجم شاخصا بصره ورافعا صوته :يا سيدنا مهدي انا لم اذنب انه يوما واحدا بل قل حتى مجرد ساعات كان جرحي يدمي ،ضربني معول الحفر فصرخت في ملاحظ العمال طالبا راحه قليله لم يداوني أحد ولم يعبأ بي الملاحظ، تركني وشأني .  وقال محتكرا: تلك الساعات غير مدفوعه الاجر ليكن في علم ذلك ! فيقطعه سيدنا المهدي : دماء حقدك ستمطرنا حجارة الجبل أيها اللعين المتكاسل ألم تعلم بأسطوره المدينه القديمه ؟  ألم يحكها لك اأجدادك؟ عند اول قطره تروي حجاره الجبل ستمطرنا حجاره الجبل!

 يرمقه اهل المدينه كأنها أسنه الرماح وتعلو أصوات : لعنك الله بما أهلكتنا ايها الغبي!

 وهنا يدخل الشحاذ ويزاحم الجميع بأعلى صوته :يا اهل الخير حسنة قليله تحميكم من مهلكه كبيره! ويقول:  يا سيدنا المهدي انا فعلت كما أمرني عمدة المدينه لم أدخل حوانيت الاعيان ولم أطرق لهم بابا ولم اقترب حتى من أحيائهم ، لم يرتفع صوتي إلى جوار بيوتهم.  سيدنا المهدي: كم يوما تطلب الحسنه ؟الشحاذ: ثلاث فقط يا سيدي كما أمر عمدة المدينه. ويتعجب الشحاذ :اتسول ثلاث واتعطل الباقي،  هل رأيت شحاذا يعمل ثلاثا فقط يا سيدنا وهل الشحاذ أغنى من الاعيان الذين يعملون كل يوم؟!

 يقاطعه سيدنا  المهدي قائلا له: بل تعمل اكثر من ثلاث ولكن اتدفع فائض الحسنه للصندوق أيها الشحاذ الطماع؟
 الشحاذ: لقد دفعت فائض الحسنه كلها في الصندوق يا سيدي.

 يقاطعه سيدنا مهدي :
 أيها الحقيرهل مدينتنا فقراء فيقول الشحاذ لست أنا  من يفقرهم يا سيدنا، انا لا ابيع او اشتري ولا املك حانوتا ولا بيتا فمالي وافقارهم.  سيدنا  مهدي : انت تعمل ثلاثه ايام كامله على افقار المدينة  كلها، يقاطعه الشحاذ :وصندوق الحسنه يا سيدنا، فيقاطعه سيدنا صه عليك اللعنة!   نجعلها ثلاث أيامي مدينتنا والباقى فى المدن الأخرى.

 الشحاذ: لكن كل من المدينه اولى بشحاذيها ان جحا اولى بلحم طوره. فيجيبه سيدنا: لا تنسى انني أنا من أمرت ،ولا تنسى ان تزد في صندوق الحسنة!
 سماع صوت في المدينه ايها الشحاذ الطماع انت سبب اللعنه على مدينتنا ؛وتعلوا أصوات: حقد الفلاح لعنه ،وطمع الشحاذ لعنه، ودماء العامل المتكاسل لعنه.

أهل المدينه :ما العمل يا سيدنا؟ سيدنا المهدي: اطلبوا المغفره ودعوا الجدل ولا تفعلوا كما فعلوا ، لا تنظروا كثيرا في السماء! لا تنظر في السماء حتى تغفر لكم السماء!!!!!
(  بقلم الأستاذ شريف البدرى )