القمص يوحنا نصيف
    شهر نوفمبر هو شهر غني بأعياد القدِّيسين.. ففيه أعياد لمارمرقس ومارجرجس ومارمينا والقديس يوحنا الذهبيّ الفمّ، والكثيرين غيرهم.. ووسط هذه الأعياد والاحتفالات والنهضات الجميلة المُصاحِبة لها.. هناك سؤال مهم: كيف ننظر إلى القديسين؟ كيف نراهم؟!

    إجابة هذا السؤال ستكشف لنا كيف يمكننا أن نستفيد منهم؟!

    هل نرى القدِّيسين مجرّد فلتات في التاريخ.. ومضات يصعب أن تتكرّر في هذا العالم المُظلِم؟!

    هل هم مجرّد أبطال قاموا بأعمال خارقة، لذلك وضَعَتْهم الكنيسة أمامنا لكي نطلب معجزاتهم في حياتنا، ونقدِّم بأسمائهم النذور من أجل تحقيق بعض مطالبنا المادّيّة؟!!

    هل كانت إمكانيّاتهم الخارقة هي سبب شهرتهم وبطولتهم؟ أَم أنّهم مجرّد بشر عاديُّين تجاوبوا بإيمان مع عمل نعمة الله في حياتهم، وبذلوا كلّ جهدهم في يقظة وصبر، حتّى غلبوا العالم ونموا في درجات القداسة؟!

    وإذا كانت الحقيقة هكذا فهل الطريق مفتوح أمامنا لكي نكون قدِّيسين مثلهم..؟!

    تعالوا نقرأ معًا ما كتبه عن القدِّيسين أحد آباء الكنيسة العِظام في القرن العشرين، وهو القدّيس القمّص بيشوي كامل.. كيف كان يراهم، ويتصادق معهم، ويتعلّم منهم؟ كيف كان يستكشف أسرارهم، ويُفَتِّش عن الدوافع التي بداخلهم، والتي تتحكّم في سلوكهم وطريقة مواجهتهم للعالم؟!

    فمثلاً، في رؤيته للشهيد العظيم مارجرجس، كَتَبَ ما يلي:
   [+ مارجرجس شاب.. شهيد يسوع المسيح.. شهيد محبّته.. ومحبّة العِفّة والطهارة..

   + والاستشهاد هو التعبير الوحيد عن طبيعة الإنسان المسيحي، فالله أحبّ الإنسان، حتّى الصليب، حتّى الموت. والشهيد هو مسيحي أحبّ المسيح حتّى الموت، فجاهد ضدّ ذاته إلى الموت فأماتها، وضدّ العالم فمات عن العالم. "من أجلك نُمات كلّ النهار، قد حُسِبنا مثل غنمٍ للذّبح" (رو8: 36).

   + المسيحي هو إنسان عندما يكره الخطيّة يتركها إلى الموت. ليس هناك ميوعة في حياته، لأنّه لا يعرف أنصاف الحلول. بل وضَعَ في قلبه أن يموت لأجل يسوع. وهو يحمل دائمًا في جسده كلّ حين إماتة الرب يسوع... "لأنّنا نحن الأحياء نُسَلّم دائمًا للموت من أجل يسوع، لتَظهَر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت" (2كو4: 10-11)... هكذا الله يتمجّد في ضعفنا أكثر من قوّتنا، وفي موتِنا أكثر من حياة أجسادنا.

   + هذا الفتى الصغير، منذ أن شاهد أباه وهو يُريق دمه في سبيل مخلِّصه، أحبّ هو أيضًا الصليب، وسعى إليه بقلبه، واشتهى أن تُراق دماؤه مع مَن صُلِبَ عليه لأجله..

   + مارجرجس شاب يعرف كيف يقدِّم شبابه على مذبح الطهارة في المسيح يسوع.. في السجن أرسَلَ إليه الإمبراطور إحدى مَحظِيّات القصر الجميلات.. لعلّها تستطيع أن تُغريه بفتنتها ليسقط معها. ولكن مارجرجس عرف كيف يُحوِّل السِّجن إلى هيكل طاهر تُرفَع فيه الصلوات، ليس فقط لأجل نفسه، ولكن لأجل خلاص نفس هذه المرأة المسكينة.. لم يأتِ الصباح حتّى تقدَّمَت إليه بدموع تطلب منه أن يُعَرِّفها سرّ حياة الطهارة والقداسة التي تلامَسَت معها في حياته، فأخذ يبشِّرها بيسوع ينبوع الطهارة، وبدل أن كانت آتية لتجذبه بسِحر خلاعتها جذبها هو بسِحر طهارته..!

    وكتب أبونا بيشوي أيضًا عن مارمينا العجائبي:
   [علاقة مارمينا بالرب يسوع، عن طريق الروح القدس، هي علاقة حُبّ.. يصلِّي حُبًّا في الحديث مع صديقه، والرب يسوع يفرح به.. يصوم ويزهَد في اللذة الأرضيّة، مِن عُمق لذّته في العِشرة الإلهيّة.. يحتقر العالم من شدّة التصاقه بصديقه الدائم.. يقرأ الإنجيل ليس للدرس ولا للواجِب، لكن بدون شبع من كلمات الصديق الحبيب.. يحفظ بتوليّته ليس حِرمانًا ولا هدفًا في حدّ ذاتها، ولكن عِشقًا في الحبيب، لأن مَن التصق بامرأة صار واحِدًا معها، ومَن التصق بالرب فقد صار معه روحًا واحدًا (1كو6).. هذا هو منهج الحُبّ في حياة القدِّيسين..!

    هكذا يمكننا أن نرى القديسين.. فهُم عائلتنا التي ننتمي إليها.. هم سحابة الشهود المحيطة بنا تظلِّلنا وتشجِّعنا وتصلِّي لأجلنا.. هم قدوة لنا في إيمانهم ومثابرتهم وأمانتهم وطهارتهم ومحبّتهم للمسيح.. هم نموذج حلو للسائرين في طريق الملكوت..!

القمص يوحنا نصيف
نوفمبر 2024م