حنان فكرى

الجوع.. وصمة عار تُذكّر البشرية بعجزها عن تحقيق العدالة، الجوع.. ليس مجرد ألم صامت يعتصر البطون، بل هو مأساة تُطفئ أحلام الملايين وتبدد آمالهم في حياة كريمة، الجوع متفشي رغم وفرة الموارد التي يزخر بها كوكبنا، بينما يئن ويموت مئات الآلاف من الصغار، ويظل الملايين عالقين في دوامة الفقر والصراعات وسوء التغذية.

 

يجلس الساسة على طاولة اجتماعات المفاوضات، على منصات الأقوال يشيدون مجدا وفي دروب الأفعال يتركون وعدا، يقايضون الحياة بالموت، والتنمية بالجوع، والربح والرفاهية بالعوز والانهيار، هذا هو ما حدث خلال المفاوضات المُتعثرة التي جرت في القمة التاسعة والعشرين للمناخ، التي انتهت يوم الجمعة الماضي، وتلك التي جرت على مستوى قمة العشرين تزامنا معها وصدر عنها التحالف العالمي لمكافحة الجوع والفقر.

 

ربما يتساءل البعض ما العلاقة بين قمة المناخ، وقمة العشرين، والجوع، والصراعات؟ تتمحور العلاقة حول الأولويات المشتركة والجهود العالمية للتصدي للتحديات الكبرى التي تواجه البشرية، وجبروت المصالح السياسية والاقتصادية الذي يقف عائقا، وفوضى التحديات الخفية التي تعبث بمصائر الضعفاء.

 

إن قمة العشرين، باعتبارها منتدى دوليًا يضم أكبر الاقتصادات في العالم، تركز على تعزيز التعاون الاقتصادي، الذي حتما يتأثر بالنزاعات والتوترات السياسية، لكنها أيضًا تضع في أجندتها قضايا التنمية المستدامة مثل القضاء على الفقر، تحسين التعليم، والمساواة بين الجنسين.

 

ومن أهداف التنمية المستدامة التي تحظى بالاهتمام في القمة: القضاء على الجوع وهو (الهدف رقم 2)، ضمن 17 هدف هي اهداف التنمية المستدامة، والعمل المناخي (الهدف رقم 13)، والشراكات لتحقيق الأهداف (الهدف 17).

 

أما مؤتمر المناخ فيُركّز على الهدف 13 (العمل المناخي) بشكل مباشر، لكنه يؤثر في أهداف أخرى مثل القضاء على الفقر (بسبب تأثير المناخ على الفئات الأكثر ضعفًا)، وضمان المياه النظيفة (الهدف 6)، والحفاظ على التنوع البيولوجي (الهدف 15) والتوصيات الصادرة عن المؤتمر تدعم تحقيق أجندة 2030 للتنمية المستدامة، من خلال تعزيز التكيّف مع التغيرات المناخية وتقليل المخاطر الناتجة عنها.

 

باختصار فان قمة العشرين ومؤتمر المناخ مرتبطان بشكل تكاملي ضمن أجندة أهداف التنمية المستدامة التي قطعا تتأثر بالظروف السياسية والنزاعات، والقمة تعمل على تعبئة الموارد والسياسات اللازمة، بينما يقدم مؤتمر المناخ خريطة طريق لتحقيق الاستدامة البيئية، لتصب كل الجهود في تحقيق رؤية عالمية متكاملة بحلول 2030.

 

حاولت قمة العشرين أن تكون نتائجها عند ظن المجتمعين في باكو حيث مؤتمر المناخ، فاعترفت بأن الجوع لا ينجم عن نقص الموارد أو المعرفة، بل عن نقص الإرادة السياسية وأطلقوا التحالف العالمي لمكافحة الجوع ولضمان وصول الغذاء للجميع، لكنها لم تحدد كيف وبأي تمويل سيتم ذلك، وما العجب؟ فاعضاء مجموعة العشرين هي الدول التي تطلق 80% من الانبعاثات الملوثة للارض، هي ذاتها الدول التي تقلص التمويل للدول النامية، وتتقاعس عن مساعدتها لدفع الضرر الناجم عن أنشطة تلك الدول الغنية، فتتنصل الدول المتسببة في الانبعاثات الكربونية المسببة للاحتباس الحراري وتغير المناخ وكوارثه، ولا تلتزم بدفع أنصبتها من التمويل.

 

وأكبر دليل على ذلك أن بيان قمة العشرين لم يتطرق إلى مسألة تقليل الاعتماد التدريجي على مصادر الطاقة الأحفورية التي تمّ الاتفاق عليها خلال مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين للمناخ في دبي، وهو ما ينبئ بمزيد من استخدامات البترول لصالح الدول النفطية، والمتقدمة، وبالتالي مزيد من الانبعاثات الملوثة، وكوارثها، التي يروح ضحيتها أرواح برئية، بينما تتشبث الدول الملوثة للأرض بفكرة المصالح الاقتصادية ولا تعي أن التغير المناخي عابر للحدود الجغرافية وسيحدث «مذبحة اقتصادية» تهدد الاقتصادات الكبرى والصغرى على حد سواء.

 

وهكذا تتجلى تناقضات وسياقات متعددة تتطلب قراءة نقدية تعكس تباينات المواقف وتحديات الوصول إلى توافق عالمي حقيقي، وأبرز ملاحظة نقدية تكمن في اللغة المزدوجة المستخدمة، حيث يجمع بيان مجموعة العشرين بين عبارات عامة وأخرى تبدو مشحونة سياسيًا، فيأتي الاعتراف بتأثير الفساد على تراجع التنمية، والتزام الدول بمكافحته ليخلق انطباعًا بالجدية، ولكنه يتقاطع مع تقاعس عملي في ملفات جوهرية كالنزاعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا التي من شأنها إعاقة أي تنمية وليس فقط إعاقة استدامتها.

 

وانتهت قمة العشرين النهاية المتوقعة بعدم تحديد أي مصادر للتمويل، وسلمت النتائج لمؤتمر المناخ الأخير COP29 في باكو، أذربيجان، ليسقط سقف التمويل فوق رؤوس الدول النامية من 1.3 تريليون دزولار ليصل إلى 300 مليار دولار سنويًا بحلول 2035 وهو رقم أقل بكثير من المبلغ الموصى به من الدول المفاوضة في المؤتمر (1.3 تريليون دولار سنويًا)، مما يثير تساؤلات حول كفاية الجهود الحالية لمواجهة التحديات المناخية المتزايدة.

 

في الوقت الذي يواجه التمويل تهديدا وشيكا متمثلا في احتمال انسحاب اكبر اقتصاد في العالم، وهو أمريكا، الأمر الذي ألقى بالتوترات السياسية على مفاوضات المؤتمر، ففريق أمريكا الحاضر في المؤتمر يمثل إدارة بايدن، بينما التصريحات السلبية التي تصف تغير المناخ بالخدعة الكبرى وتهدد بالانسحاب من اتفاقيات المناخ، تمثل ترامب، وسياسة «أمريكا أولًا» في إدارة ترامب، أثرت على الالتزامات الأمريكية وخلقت حالة من الشكوك بشأن تحقيق الأهداف المالية الطموحة في ضوء انتخابه لولاية ثانية غير متتالية كرئيس للولايات المتحدة، لأن نهجه القائم على مبدأ «أمريكا أولًا» لا يتماشى مع الواقع العلمي المتعلق بتغير المناخ، وهكذا كان للمصالح السياسية والتوترات الاقليمية تأثيرا مباشرا على هدف المؤتمر وهو التمويل لمساعدة الدول النامية حتى تواجه كوارث تغير المناخ الناجمة عن أنشطة الدول المتقدمة.

 

ثم جاءت الطامة الكبرى في مؤتمر باكو، متثملة في الهيمنة الفجة لمصالح الطاقة والاقتصاد، فقد لعبت تلك المصالح دورًا سلبيا للغاية في هذه الدورة، من مؤتمر المناخ، وكانت عرقلة المملكة العربية السعودية متمثلة في كونها مؤيدة للوقود الأحفوري تأييدا صارخا، اما أذربيجان، الدولة المضيفة للمؤتمر، هي دولة تعتمد على النفط اساسا، مما أثار جدلًا حول حيادية استضافة مؤتمر مناخي في بلد يعزز استثماراته في الوقود الأحفوري، ويطرح تساؤلات عن مدى جدية التزامها بالانتقال للطاقة النظيفة.

 

ولم يكن من المدهش على الإطلاق أن يتم تصوير مسؤول أذربيجاني كبير سرًا وهو يستخدم منصبه لترتيب اجتماع لمناقشة صفقات الوقود الأحفوري المُحتملة. وهذا أمر ليس من عندياتي وإنما يكشفه تقرير جديد صادر عن منظمة المحاسبة الخام، تحت عنوان «التواطؤ الغربي و9COP2» أن النظام البترولي في أذربيجان مدعوم ومُغطى باللون الأخضر من خلال الاستثمارات الغربية، ويفضح التقرير العلاقة بين الاستثمارات الغربية الكبيرة في الصناعات الاستخراجية في أذربيجان، وتدهور تطبيق معايير حقوق الإنسان والبيئة والمعايير الاجتماعي هناك. حتى انه مع بداية الأسبوع الثاني من مؤتمر الأطراف، بدت القيادة الأذربيجانية كما لو كانت تستخدم التجمع لجذب الاستثمارات بدلاً من التركيز على الالتزامات المناخية، وهو ما انعكس سلبا على أجواء المفاوضات، كما أن الرئيس الأذربيجاني علييف كان صريحًا في تصريحاته العامة بأن أذربيجان تخطط لتوسيع إنتاجها من النفط والغاز بدلاً من تقليص محفظة الوقود الأحفوري»!!.

 

وظهر جبروت المصالح في حضور ما لا يقل عن 1773 من جماعات الضغط في مجال الوقود الأحفوري حصلوا على الاعتماد لحضور مؤتمر المناخ COP29 فتحول مؤتمر المناخ COP29 إلى فرصة استثمارية لشركات النفط الكبرى وغيرها، بينما يتم إسكات المجتمع المدني الأذربيجاني المستقل- خلف القضبان أو تحت الإقامة الجبرية. لا يستطيع العديد من أعضاء المجتمع المدني والمجتمعات المحلية المشاركة في الاجتماع أو المخاطرة بحياتهم وحريتهم للتحدث ضد الضرر البيئي الناجم عن استثمارات الوقود الأحفوري.

 

ثم ظهر لنا صندوق العمل المالي لتشييد مشاريع المناخ في البلدان النامية التي تعتمد على الدعم، في مجالات التخفيف والتكيف والبحث والتطوير، الذي أعلن رئيس المؤتمر أنه أول صندوق يوفر تمويلًا متاحًا، لمعالجة عواقب الكوارث الطبيعية في الدول الجزرية الصغيرة النامية، والبلدان الأقل نمواً، والمجتمعات النامية الضعيفة الأخرى حسب الحاجة، ولا أعرف كيف يحسبه أول صندوق لعلاج الكوارث بينما قادت مصر في القمة السابعة والعشرين للمناخ في شرم الشيخ إنشاء صندوق التعويض عن الخسائر والأضرار!! .

 

والمفترض أن الفرق الأساسي يكمن في الغرض: فصندوق الخسائر والأضرار مخصص للتعامل مع تداعيات الكوارث الحالية، بينما صندوق العمل المالي يركز على بناء القدرات المستقبلية اللازمة لتحقيق الأهداف المناخية، وهي ازدواجية فجة في المهام، تضع الجميع أمام إشكالية تعدد الصناديق المالية التي تزيد من التعقيد الإداري وتُبطئ وصول الأموال إلى المستفيدين الحقيقيين، وقد يؤدي الاعتماد على نفس الجهات المانحة إلى تقليل فعالية كلا الصندوقين، وهكذا تتضارب القرارات، وتتآلف المصالح، وتتحكم السياسات.

 

وأخيرًا، علينا أن نعترف بأننا نعيش في عالم مليء بالتوترات السياسية والصراعات والمصالح المادية. عالمٍ يموت فيه البعض جوعًا، بينما يواجه آخرون الموت بسبب التخمة.

 

 

في هذا الواقع، نصطدم يوميًا بأصوات تصرخ دون أن تفعل، وأيادٍ تسعى للبناء لكنها تواجه معاول الهدم التي لا تكل. فقط لأنها تعيش اليوم ولا تكترث بحياة الناس غدا.

نقلا عن المصرى اليوم