الأب جون جبرائيل
المشهد: طاولة في مقهى يقع في حيٍّ هادئ يطلّ على مدينة صاخبة، غارقة في ضوء القمر. يغمر شوارعها ظلال مبانيها العالية، يجلس أمير ونادر، يحيط بهما صمتُ الليل، لا يقطعه سوى صوت الزبائن يطلبون ويتناقشون ويضحكون. وتتشابك الكلمات بينهما مثل تشابك خيوط نور القمر بأسطح مبانيها التي تبدو وكأنّا ذاتها قد تحوّلت إلي أجسامِ صامدة ترفع أيديها نحوه في تساؤلٍ وجوديّ، تشابكٌ كغريق في الصخب يطلب نجدة النور في ظلمة المدينة الصاخبة.

أمير:
هل تأمّلت يومًا، يا نادر، في فكرة فويرباخ؟ ذلك الفيلسوف الألمانيّ الذي رأى أنّ الله ليس إلا مرآة عاكسة، تعكس احتياجاتنا نحن البشر. يرى أننا صنعنا إلهًا لنغطّي به هشاشتنا وبؤسنا، لنجد فيه الراحة والاتجاه، وربما... العزاء في وحدتنا وجهل مصيرنا.

نادر:
لكن، يا أمير، أليس في النفس البشرية أكثرّ من رغبة محضة في الراحة؟ ماذا عن شوقنا للحرية؟ ذلك اللهب الذي لا ينطفئ في أرواحنا، تلك الحاجة والرغبة الجامحة لأن نكون أسياد أنفسنا؟ ألا يناقض هذا إسقاط فويرباخ؟

أمير:
ممم، ربّما، ولكن أليس الإيمان نفسه أحيانًا نوعًا من البحث عن المأوى؟ هروبٌ نحو ملجأٍ حصين. أن يكون لنا حضن واسع نلقي ذواتنا فيه بأثقال العالم؟ إنّ عمّنا فويرباخ يقول إنّنا نخترع إلهًا لنملأ به فراغنا ونخفي خوفنا من المجهول.

نادر:
لكن الحرية، يا صديقي، ليست فراغًا، بل عبءٌ جميل، نعم، حِملٌ، لكنّنا نحمله بشجاعة. قال سارتر: "نحن محكوم علينا بالحرية"، كأننا خُلقنا لنكون سُجناء اختيارنا. أحيانًا، أشعر أن الإيمان قد يكون محاولة للهروب من مواجهة هذه الحقيقة، من مواجهة العالم بلا دليل ولا خارطة، عاريًا بلا حماية، وحيدًا بلا رفيق.

أمير:
وهل كلّ مؤمنٍ هارب؟ أليس هناك مَن يرى في الله رفيقًا لا سيّدًا، شريكًا لا متحكّمًا؟ سمعتُ يومًا أحدَهم يقول: الإيمان بالله هو قفزة الثقة، ليس لأنّنا ضعفاء، بل لأننا نؤمن أننا نستطيع أن نطير، أن نقفز... إنّنا أيضًا ويا للمفارقة، أقوياء!

نادر:
جميل... كأنّ العلاقة مع الله ليست استسلامًا، بل رقصة، فيها العطاء والأخذ، الانحناء والانتصاب.

أمير:
تذكّرني كلماتك بمشهد المسيح في بستان الزيتون، حين كان يتوسّل ويناجي ربّه، لكنّه في النهاية اتّحد مع مشيئة الله فنسج إرادته بإرادة أبيه، فلم تنتقص إنسانيّته. كان صراعه هناك على الجبل، في تلك الليلة، لوحةً تمزج الألم بالرضا، التردد بالثقة، الحرّيّة بالاختيار.

نادر:
هذا ما يجعل الإيمان أكثر تعقيدًا! ربما، يا أمير، فويرباخ قد رأى جانبًا واحدًا من المرآة. الإيمان ليس فقط إسقاطًا لاحتياجاتنا، بل قد يكون مرآةً لما نطمحُ أن نصبح عليه. نطمح، لأنّنا نستطيع أن نأمل، ونستطيع أنّ خلف حدودنا هناك شيء لا بدّ من الوصول إليه. هذه الحدود تستفذّني، وما أن أهدمها، أبدأ في النظر إلى ما هو أبدأ، لتحطيم حدودٍ أخرى.

أمير:
وكأن الإيمان ليس استسلامًا ولا حرية مطلقة، بل توازن هش بينهما. بين أن نكون منقادين وفي الوقت نفسه صانعي مصائرنا.

نادر:
وربما هذا التوازن هو سرّ عمق الإيمان، يا أمير. ليس في الاعتماد على قوّة خارجيّة فقط، بل في اعترافنا أنّنا، بكلّ تناقضاتنا، مزيجٌ من ضعفنا وقوّتنا.
يصمتان للحظة، يتأمّلان السماء وقمرها. ينطران بين الظلال والنور، ويتبدّى لهما أنّ الحوار عن الإيمان لا نهاية له، مثل الليل الذي ينسج الصبحَ بلا ملل، والصبح الذي ينسج الليل بلا كلل.

(الصورة لڤان جوخ: Café Terrace at Night, 1888 by Vincent Van Gogh Printings