الأب جون جبرائيل
تدقُّ أجراسُ الكاتدرائية صادحة نحو السماء، فيسود الصمتُ حولها خشوعًا، وتستنشق الأنفاسُ رائحةَ البخور الزكيّة التي تستخدمها الكنيسة وفقًا لتقليدٍ قديم. يدخل البطريرك الكاتدرائيّة وحدَه بملابس سوداء بسيطة. تتداخل أعمدة الشمس مع اللوحات الزجاجيّة في شبابيك الكاتدرائية، فتخلق صورًا متداخلة، جميلة لكنها غير مكتملة المعالم. لعلها انعكاسٌ لسرّ الإنسان ذاته، الذي يعكس جمالًا رائعًا وتشوشًّا في الوقت عينه. بل هي انعكاسٌ لما يدور في ذهن البطريرك، الذي دخل ليبثَّ لله همومه، متأمّلًا في الوضع الذي تمرّ به كنيستُه.

ينحني البطريرك بلحيته البيضاء حتّى تلامس الأرض، ويتساءل في صمت:
كيف يمكن لبطريرك أن يعمل بجهد حتى تعود كنيسته إلى سابق عهدها، منارةً في اللاهوت والتعليم، تجمع بين روحانية نسكية وروحانيّة حياةٍ علمانية متناغمة؟ وكيف يمكن القضاء على الجهل الذي تسلل إلى صفوف الكنيسة، بعد أن تمَّت رسامة عددٍ من الأساقفة ليس فقط بلا تعليم لاهوتي، بل حتى من بينهم أمّيّون يجهلون القراءة والكتابة؟

ثم يرتفع من تأملاته ليطرح على نفسه المزيد من الأسئلة:
هل يمكن أن يستقبل كلّ ديرٍ من أديرتنا مدرسة لاهوتيّة تكون الدراسة فيها إجباريّة لكل من يطلب الرهبنة؟
ألا يمكن تأسيس أسقفيّة تعليم حقيقيّة تُشرف عليها لجنةٌ من المتخصّصين والأساتذة من الجامعات المعترف بها عالميًّا؟
وهل من الممكن أن يتّخذ المجمع المقدّس قرارًا حاسمًا، لا يقبل رسامة أساقفة إلا إذا حصلوا على العلوم اللاهوتية والكتابية والإنسانية من كليات لاهوت عالمية معتمدة؟

وحين لامس وجهُه أرضَ الهيكل، وإذ ارتفع قلبه نحو السماء، إذا بخطى ثقيلة ومجهولة تصل إلى مسامعه. رفع رأسه قليلًا، لتلتقط عيناه ظلًا يتحرك في الجهة الأخرى من الهيكل. كان الحذاء الأسود اللامع يخطو بخطوات ثابتةٍ وحذرة، يتقدّم ببطء كأنّما يخشى إزعاج السكونَ الذي يملأ المكان.

بدأت الخطوات تقترب أكثر فأكثر، حتّى بدت كأنها تتردّد في التقدّم. رفع البطريرك ناظريه تمامًا، محاولًا استجلاء من يقف أمامه. تساءل في داخله:
"هل أرسل الله لي جوابًا على أسئلتي؟ أم أن هذه الخطوات تحمل رسالة من نوع آخر؟"

وبينما تتّضح ملامحُ القادم، توقّفت عيناه على حذاء يعلوه ثوبٌ أسود طويل يرتديه الرهبان. ومع رفع بصره نجو الأعلى، رأى أسقفًا وقورًا، سكنتْ وجهَه ابتسامةٌ تضاهي براءةَ الأطفال. يمسك صليبًا في يده اليمنى وعصا الرعاية في اليسرى، يزيّن صدرَه صليبٌ ذهبيّ صمّمتْه يدٌ ماهرة في أحد أديرة اليونان. وحينما رفع البطريرك رأسه إلى الأعلى، انعكس شعاع من الشمس على الصليب الذهبي، فكاد بريقه يغشي بصره ويمنعه عن تمييز ملامح الأسقف.

نهض البطريرك على قدميه وقال:
"أهلًا سيدنا."
ثمّ صمت لحظةً يتفحّص فيها وجهَ الأسقف، لكنّه لم يتمكّن من معرفته، فثال في نفسه متعجبًا:
"كيف يمكن لي أن أنسى وجه أحد أساقفتي؟"
اعتراه شعور خليط من الخجل والريبة تجاه هذا الزائر الذي ظهر بلا ميعاد. نظر الأسقف إليه نظرة وديعة، وفي صوته نبرة نصح كأنها صوت ابن يخاطب والده المنهك:

"سيّدَنا، صلاتُك لا تَخفَى، واللهُ لا يصمّ أذنيه عنها. اقرأْ علاماتِ الأزمنة، وسترى رسالةَ الله جليّةً. الشعبُ يبحث عن بطل مغوار، عن قدّيس جُهُّزتْ ملابسُ قداسته مسبقًا. أَلا املأ الفراغ، الذي حولكَ! ارتدِ ثوبَ القداسةِ هذا.

يخشى الشعبُ المجهولَ، ألا أرِهِم المجهولَ وجسِّده أمامهم. أعطِ المجهول اسمًا، فيلتفّ الشعبُ حولك باحثًا عن الخلاص فيك والحمايةِ في كنَفِك. أظهر لهم أن المجهول العدوّ ليس سوى الآخر المختلِف، المسكونيّة، تقبُّل العصر، الكنائس الأخرى، التغيير، العلم، بل حتّى آباء الكنيسة أنفسهم."

ثم دار الأسقف ببطئ حول البطريرك، على شفتيه ابتسامةٌ مغلّفة بالأسرار، وعيناه تتألّقان مع انعكاس النور الخارق الشبابيك الزجاجية. ثمّ توقّف لوهلة خلف كتف البطريرك وأمال رأسه نحو أذنه وقال بصوتٍ عميق:

"إنها الكاريزما، سيّدنا!"
وحين انتهى الأسقفُ من كلماته التي بدتْ خطابًا، ظلّ البطريرك واقفًا مذهولًا، محاولًا فكّ طلاسم رسائل زائره الغامض. شعر وكأنّ الكلمات تحمل أبعادًا تتجاوز معانيها الظاهرة، إلّا أنّها أثارت في أعماقه مزيجًا من الشكّ والاضطراب.

نظر البطريرك إلى زائره نظرةً حادّة، فوجده يتأمّله بابتسامته الغريبة. وبدا كأنّ النور المنعكس من الصليب الذهبيّ على صدره يزداد إشعاعًا وتوهّجًا كأنّ مصدره لم يكن الشمس.

ارتعش البطريرك، لكن قبل أن يتكلّم، بادرَه الزائر بصوتٍ انخفض قليلًا، تبدّد منه كلّ إحساس:
"ألم تفكر أبدًا، سيّدنا، في أنّ القوّة الحقيقية تأتي من السيطرة على الخوف وعلى استخدامه؟ الناس بحاجة إلى قائد يفهم قوّتهم وضعفهم. ثمّ خطى خطوة واحدة ونظر إلى البطريرك وأردف: أنا هنا فقط لأرشدك إلى ما تحتاجه كنيستك."

تحشرجت الكلمات في فم البطريرك وقال بصوت مخنوق:
"مَن أنتَ؟"
ابتسمَ الزائرُ ابتسامةً عريضة، ولمعتْ عيناه زهوًا وقال بصوتٍ متغيّر:
"أنا من كنت هنا دائمًا.. أنا من يراقبك دومًا... في لحظات الانتصار والانكسار. أنا من يسعى لأن يلهمك أن تتساءل وأن تطلب القوّة. أنا الذي يقرأ علاماتِ الأزمنة معكَ، ولكن... على طريقتي."

تراجعَ البطريرك خطوةً إلى الوراء، بينما بدأتْ ملامح الزائر تتغيّر. وصار صوتُه أشدّ عمقًا:
"أنا الظلّ الذي يخشى الجميع تسميتَه. أنا الذي يقف حيثُ يخشى الآخرون. أنا المجهولُ ذاته الذي طلبتُ أن تسمّيه أمامَ شعبك، أنا صاحبُ الرداء الذي أقدّمه لك هديّة... ارتَدِهِ!"

في تلك اللحظة، انهارت قوى البطريرك إلى الأرض، ورفع يديه مغمضًا عينيه وهو يتمتم بصوت مرتجف:

"يا ربّ، احمني من الشرّير."

لكن عندما فتح عينيه، كان المكان قد عاد إلى السكون. اختفى الزائر، وبقيت الكاتدرائية في صمتها المهيب. النور الذي كان يعكسه الصليب الذهبي تبدّد، ولم يبقَ سوى الصليب الخشبيّ أعلى الهيكل مغمورًا بينور النهار، وشعاع الشمس الهادئ والدافئ يغمر أرجاء الكاتدرائيّة.