جون جبرائيل
في قاعة العدل الأزليّ، اُضيئتْ مشاعلُ النور الخالد، فانسكب وهجها على الوجوه الخائفة، فغشّى الأبصار وارتجفت له الأوصال. انتصب عرش ماعت العظيم في بهائه، إلهة الحق وربّة النظام، شامخًا وسط المهابة. على يمينها، أوزير حاكم العالم الآخر، يقف مهيبًا كالقضاء، وإلى جواره ميزان العدالة، يتأرجح في صمت، منتظرًا أوزان القلوب الآثمة.

خلف العرش، اجتمع مجلس الآلهة على عرش الحكمة الأبديّ: تحوت، إلهُ الحكمة، يخُطّ بعناية ما تنطقه الأرواح من دون شفاه، وأنوبيس يتهيّأ لوزن القلوب بريشة الحقّ الخفيفة كنسمات الآلهة. ومن فوقهم جميعًا، شعَّ رع، الشمس ذاتها، يبدّد أسرار الظلام، كاشفًا الخفيّ والمعلَن، شاهِدًا صامتًا على كل ما اقترفتْه الجموع أمام أرض النيل المقدّسة.

وقف أوزير، وصوته رعدًا هادرًا، يسأل:
"مَن أرى أمامي؟ المصريّون؟ أنتم أحفاد من بنوا الأهرام، وشقّوا القنوات، وحفروا أسرار الخلود على جدران المعابد. كيف اجتمعتم هنا اليوم؟ ما الذي جلبكم إلى هذه المحكمة؟"

ساد الصمتُ ثقيلًا كالرصاص، حتّى انبعث صوتٌ عميق من وسط الحشد، يرتجف، لكنّه صادق:
"مَثَلنْا أمام جلالكم لنؤدّي عن أعمالنا حسابًا."
نهضتْ ماعت، بهيبةٍ يعجزُ نحّاتو المعابد عن تصويرها، وأشارت إلى الميزان برفقٍ يتخطى في سطوته ربوات المحاربين من جيوش فرعون، فملأت القاعة بصرامةٍ لا تُردّ. ثمّ قالت بصوتٍ كالريح جارفٌ:

"نهر النيل، مصدر حياتكم وحضارتكم، أرضكم جميعها هبةٌ منه! من منكم قدَّسه وصانه؟ ها ماؤه قد امتلأ سمومًا، وخيراته ضاعت سُدى... دنّستموه بقذارتكم، وجعلتم توازنه البيئيّ مختلًا. أنسيتم أنه شريان الحياة الذي منحكم إيّاه رع، الربّ العظيم؟"

تلعثم أحدهم، وتجرأ على الرد، متحجّجًا بصوت متقطّع:
"الظروف، سيدتي. الاقتصاد... الغزوات... الحروب... تضخم السكان..."

قاطعه تحوت، من دون أن يرفع عينيه عن لوحه الذي ينقش عليه الحقيقة:
"في قاعة العدل، لا يُسمع إلّا صوت الحقّ، وفي سفر العدالة لا يُدوَّن سوى الصدق. أعذاركم واهية. النيل لم يكن ليتلوّث لو أنكم التزمتم الحقّ والنظام. كذبكم على أنفسكم سبب فنائكم."

رفعت ماعت عينيها الثاقبتين، ثمّ نظرت إلى الجمع:
"وماذا عن شوارعكم؟ ألم يكن النظام يومًا سرًّا من أسرار تقدّمكم؟ تركتم طرقاتكم تضجّ بالفوضى، القذارات والقبح يملئان الأزقّة، ومركباتُكم تتناحر بعبثٍ مقيت. أهذا هو إرث الحضارة التي علّمت العالم النظام؟ ألم يكن أجدادكم ينحتون حياتهم بأساس الدقّة والإخلاص؟"

تقدّم رجلٌ من الصفوف الأمامية، قال بتردد يخالطه التبرير:
"لم تكن هناك قوانين قوية. نحن فقط ضحايا..."

قاطعتْه ماعت، وكأنّ الجبال تردّد كلماتها:
"الحقّ لا يحتاج قوانين فحسب لتحميه، بل يحتاج ضمائرَ حيّة. لو عملتم بدقة كما عمل أجدادكم لما احتجتم إلى قوانين تُجبركم على النظام."

تقدّم رع أخيرًا، صامتًا لبرهة، ثم أشار إلى أوزير ليعلن الحكم. قال أوزير بصوتٍ أثخنه الحزن:
"أيها المتهاونون في واجباتكم تجاه أرضكم ونيلكم، أهنتُم الهبة التي منحكم إيّاها الآلهة. لهذا السبب، فإن قلوبكم ستوزن الآن على ميزان الحقّ. لن تبرأ قلوبكم إلا إن كانت نقيّة."
اقترب أنوبيس، حاملاً ميزان العدالة. وضعت ريشة ماعت على إحدى الكفّتين، ووضعت قلوب المصريين على الأخرى. فلم تستطع القلوب أن تتساوى مع ريشة الحقّ، إذ كانت مثقلة بالكذب، واللامبالاة، والتهاون.

قال أوزير، ونبرة حزنه تخيّم القاعة:
"لن تنعم أرواحكم بالخلود. لن يُكتب لكم العيش في حقول القمح الأبديّة. لكنّني أمنحكم فرصةً أخيرة. عودوا إلى العالم السفليّ. أصلحوا ما أفسدتم، أو واجهوا الفناء الأبديّ."

إلّا أن رع، ظل واقفًا، ناظرًا إلى ماعت وأوزير، متأمّلًا:
"تراهم سيصنعون حياةً جديدة من هذه الفوضى؟ أم أنّ اسمهم سيمّحى إلى الأبد؟"