القمص يوحنا نصيف
    نحتفل اليوم بعيد نياحة القديس العظيم يوحنّا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينيّة ومُعَلِّم الكنيسة الشهير.. وقد تنيّح في المنفى مُبعَدًا عن كرسيه، ومحرومًا بقرار مَجمَع ترأّسه بطريرك الإسكندريّة!

    بهذه المناسبة سألني البعض، كيف تحدث مثل تلك المشاكل والمؤامرات الصعبة داخل الكنيسة؟ وهل كان هناك عداوات بين بطاركة كرسي الإسكندريّة وبطاركة كرسي القسطنطينيّة؟ وما هي الخلفيّات السياسيّة لتلك الأحداث التي تبدو مُخجِلة في تاريخ كنيستنا؟!

    سأحاول في هذا المقال أن أقدّم تعليقًا مختَصَرًا حول هذه التساؤلات:
    + إذا كان التاريخ يحمل أمجادًا كثيرة، فهو يحمل أيضًا ضعفاتٍ للبشر. حتى في التاريخ المذكور في الكتاب المقدس سنُلاحظ فيه هذا الأمر مع العديد من الشخصيّات والأحداث. لذلك فليس هناك ما يدعو للخجل، فهذه هي طبيعة الإنسان الضعيف.

    + لا أميل إلى الحديث عن مؤامرات وعداوات.. لكنّ السبب وراء كلّ هذه الأحداث المؤسِفة هو مرض، يمكِن أن نُسَمّيه بالتركيبة الثلاثيّة السامّة؛ وهي تتكوّن من الجهل والكبرياء والغيرة المُرّة التي تأتي من المُقارَنة مع الآخَرين وتُوَلِّد الحسد والكراهية.. وهذه التركيبة الخطيرة عندما تتملّك من أيّ إنسان فهي تكون مُدَمِّرةً له ولِمَن حوله.

    + بالطبع قد يُصيب هذا المرض المُمِيت الإكليروس كما يُصيب أيّ إنسان.. والحقيقة أنّ الإكليروس يتعرّضون له أكثر من غيرهم بسبب وضعهم القيادي في الكنيسة.. ومن هنا فَهُم يحتاجون باستمرار أن يتحصّنوا منه، بأن يتعلّموا ويتتلمذوا كلّ أيّامهم، في إنكار للذّات، وروح محبّة وإيثار، متاجرين بوزناتهم لحساب المسيح دون مقارنة مع آخَرين، حتّى لا تَدخُل فيهم روح الغيرة المُرّة والحسَد، فتَفْسَد حياتهم.

    + القديس يوحنا ذهبي الفم لم يكُن أصلاً من القسطنطينيّة بل من أنطاكيا، وقضى فقط في القسطنطينيّة سنوات قليلة كبطريرك (398م - 403م) قبل عزله ونفيه في عام 403م، ثمّ نياحته في عام 407م في عُمر سِتّين عامًا تقريبًا. وقد كانت المشكلة أنّ مُعظَم مُعاصِريه كانوا مضروبين بتلك التركيبة الثلاثيّة السامّة.. فقد كان هو مشهورًا كواعظ مُفَوَّه، يشرح الإنجيل، ويقول كلمة الحقّ، ويَهتمّ بالفقراء، كما كان ناسِكًا مُصَلِّيًا لا يحبّ الاشتراك في الولائم والحفلات العامّة، ولا يجامِل أبدًا أو يَلعَب بالسياسة.. وهذا للأسف أثار الإمبراطورة مع بعض الأساقفة ضدّه، بسبب الجهل والكبرياء والحَسَد!

    + في تقديري أنّ أحداث نفي القديس يوحنّا ذهبي الفم، وصِراعه مع الإمبراطورة الذي امتدّ لسنوات، ثمّ دخول البابا ثيؤفيلوس بطريرك الإسكندريّة طَرَفًا في القصّة، بسبب موضوع الإخوة الطوال الذين كانوا رهبانًا بمصر واختلفوا مع البابا ثيؤفيلوس وهربوا ملتجئين للقدّيس يوحنا ذهبيّ الفم.. كانت كلّها تصعيدًا في أحداثٍ لم يتمّ ترتيبها كمؤامرة، بل هي أحداث استغلّها عدو الخير، وحَرّك بعضها، من أجل التشويش على سلام الكنيسة.. وهي في أصلها مجرّد اختلاف حادّ في وجهات النظر، مع استخدام العُنف اللفظي، والذي تطوّر إلى إساءة استخدام السُّلطة، وانتهى إلى أحزان شملت الجميع..

    + حُكم الله أحيانًا يختلف تمامًا عن حُكم البشر.. فهو يعرف خفايا القلوب ويجازي بعدلٍ كلّ واحد بحسب أعماله.. ونشكر الله أنّ الكنيسة تداركت خطأ الحُكم الظالم الذي وقع على القدّيس يوحنّا ذهبي الفم، وقامت بتكريمه وردّ الاعتبار له بعد نياحته مباشرةً. ولا نَنسَى أنّ التعاليم والعظات الثمينة لهذا الأب الجليل تحتلّ الآن ستّة مجلّدات كبيرة من موسوعة آباء الكنيسة المشهورة Ante-Nicene, Nicene and Post-Nicene Fathers والتي تَحوِي 38 مُجَلّدًا.

    + في النهاية، يبدو دائمًا أنّ العُنف يُوَلِّد عُنفًا مضادًا.. ولكنّنا لا ينبغي أن نركّز على هذا، بل نهتمّ بما يبنينا.. وأقصد أن نتغذّى بكتابات كلّ الآباء القدّيسين ونتعلّم منهم، في تواضُع حقيقي.. وهكذا نكون محفوظين من التركيبة الثلاثيّة السامّة (الجهل والكبرياء والحسد)، ونستطيع أن نتجاوز أحداث التاريخ المؤلمة، لكي نهتمّ بما هو لخلاص أنفسنا وبنيان حياتنا في المسيح.
القمص يوحنا نصيف