سمير مرقص
(١) «الفقى: الباحث والمؤرخ»
قبل أيام احتفت الجماعة الثقافية والسياسية والدبلوماسية ببلوغ الدكتور مصطفى الفقى الثمانين. والرجل بإجماع المتفقين والمختلفين صاحب تجربة ثرية متعددة الأبعاد والمستويات يصعب الحديث عنها كلها فى وقت واحد وفى هذا الحيز. ولكنى سوف أنتقى جانبا من هذه التجربة هى التى تعرفت عليه فيها أولا ألا وهى الكتابة التاريخية قبل أن أتعرف عليه شخصيا. تعود بداية معرفتى بالدكتور مصطفى الفقى إلى سنة ١٩٨٢ عندما أصدر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام- وقت إدارة العزيز الراحل الأستاذ السيد يسين- كتابا بعنوان «الشعب الواحد والوطن الواحد: دراسة فى أصول الوحدة الوطنية»؛ وقد كان الكتاب تأليفا مشتركا بين الدكتور وليم سليمان قلادة، والأستاذ طارق البشرى، والدكتور مصطفى الفقى، وقد قدم الكتاب الدكتور بطرس غالى. دارت مساهمة الفقى حول الأقباط فى السياسة المصرية- فى هذا النص المبكر الشديد التكثيف العظيم القيمة- على أمرين هما: الأول: التذكير بدور الأقباط فى الحركة الوطنية عبر التاريخ. الثانى: تحرير النظرة للأقباط من رؤيتهم كأقلية. فبالنسبة للأمر الأول رصد الفقى مسيرة الحضور القبطى عبر العصور ودلل عليه من خلال محطات تاريخية متعاقبة بداية من دخول العرب مصر وحتى القرن العشرين مرورا بالعصور الفاطمية والأيوبية- زمن حملات الفرنجة- والمملوكية والعثمانية. أما بالنسبة للأمر الثانى فلقد استهل الفقى مساهمته الفكرية المعتبرة بأنه: «لا ينبغى تناول الأقباط بالدراسة كأقلية بالمفهوم المتعارف عليه عند دراسة الأقليات. فالأقباط أقلية بالمعنى العددى فقط منسوبا للمجموع الكلى لسكان مصر. فهم ليسوا مثل أقليات أخرى ذات خصائص أنثروبولوجية أو ميزات عرقية». كانت مساهمة الدكتور مصطفى الفقى غاية فى الأهمية متى عرف السياق التاريخى الذى نشرت فيه الدراسة؛ حيث كانت مصر تعيش زمنا اتسم بالتوترات الدينية من جهة، وخطاب من قبل جماعات العنف الدينى تعيد النظر فى الوضع القانونى لغير المسلمين.

(٢) «المواطنون الأقباط فى المجال العام: مكرم عبيد نموذجًا»
فى عام ١٩٨٥، نشر الدكتور مصطفى الفقى أطروحته للدكتوراه التى قدمها إلى جامعة لندن نهاية السبعينيات والتى كان عنوانها «الأقباط فى السياسة المصرية: مكرم عبيد ودوره فى الحركة الوطنية». استطاع الفقى فى هذه الأطروحة أن يؤسس لنهج جديد فى تناول المصريين المسيحيين (الأقباط)؛ وذلك من خلال أولا: مسيرة الأقباط الحركة الوطنية. ثانيا: حضورهم فى المجال العام: السياسى والمدنى. ثم قام بدراسة تجربة مكرم عبيد القيادى الوفدى الكبير باعتباره، حسب مصطفى الفقى، «أحد السياسيين الأقباط الذى عبر حاجز الأقلية، ليصبح شخصية عامة، متمتعا بشعبية واسعة بين المسلمين قبل الأقباط». وفى دراسة لنا رصدنا فيها تطور المقاربات التى تناولت الأقباط أكدنا فيها على أن كتاب الدكتور مصطفى الفقى يعد نقطة تحول فى مسار تلك المقاربات. فقبل ذلك الكتاب كانت المقاربات تأخذ منحى دينيا/ ذميا/ أقلويا. ولكن كتاب الدكتور مصطفى الفقى- ومعه كتابات قلادة والبشرى- أتى ليؤسس لنهج مقاربة جديد أطلقنا عليه: الكتابة من منظور الجماعة الوطنية (راجع دراستنا: المصريون: المسلمون والأقباط وإشكالية الكتابة التاريخية بين الموضوعية والتوظيف الدينى/السياسى.. الذاكرة المونتاج والذاكرة الاندماج).

(٣) «الفقى وبناء الجسور»
انعكس هذا الموقف الفكرى/ البحثى المبدئى على التزام الفقى عمليا من خلال الأدوار التى لعبها فى مؤسسات الدبلوماسية والسياسة والثقافة المصرية لبناء الجسور خاصة فيما يتعلق باندماج الأقباط فى المجال العام من جانب، والعناية بالشأن القبطى بملفاته المختلفة- خاصة فى أوقات التوتر من جانب آخر. فى هذا الإطار، عرفت الدكتور مصطفى الفقى وذلك قبل ٢٥ عاما (نوفمبر ١٩٩٩) من خلال برنامج حوارى شهير، آنذاك، بتليفزيون أبو ظبى كان يناقش موضوع الأقليات فى الوطن العربى؛ ضم الفقى والطالبانى، وأحد قادة حزب الأمة السودانى، وكاتب هذا السطور. وأشهد كيف كان استقبال الرجل لما طرحته من أفكار مقدرا. كما لا بد من أن أذكر كيف احتفى بكتابى الأول: الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط؛ حيث كتب فى مقاله الأسبوعى بجريدة الأهرام مطلع عام ٢٠٠١ بمناسبة حضوره لقاء بالخارجية المصرية مع رئيس مكتب الحرية الدينية الدولية بالولايات المتحدة الأمريكية كيف أنه راجع كتابى المذكور حيث كنت قد خصصت فصلا كاملا عن القانون الأمريكى للتحرر من الاضطهاد الدينى، ووصفه بالرصين؛ ما سرنى جدا. تعددت بيننا اللقاءات والمشاركات فى اللقاءات والمناسبات المختلفة، وأشهد أن الدكتور مصطفى الفقى لم يحد قط عن إيمانه بالمساواة بين جميع المصريين على اختلافهم، كذلك مهمة بناء الجسور. وأشير هنا إلى تجربة الحوار بين المثقفين والأزهر التى رعاها العزيز جدا فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب، وتجربة الصالون الثقافى العربى الذى أسسه الصديق الراحل السفير قيس العزاوى،...، إلخ. الدكتور مصطفى الفقى كل عام وأنت بخير وصحة ودعواتى بدوام الإبداع وبناء الجسور.



نقلا عن المصرى اليوم