أحمد الجمال
معلوم أن لكل مرحلة تاريخية ظروفها، المكانية والزمانية، المحيطة بها، ولها أيضًا شبكة من التفاعلات داخل المجتمع البشرى الذى يعيشها، وهؤلاء البشر محكومون أيضًا بظروف عديدة، منها تكوينهم الاجتماعى والثقافى وغيرهما من عوامل.
ولذلك قيل- وبحق- إن التاريخ لا يكرر نفسه، بقدر ما تبدو الأحداث متشابهة بين مرحلة وبين أخرى سبقتها أو تلتها، ولكن المضمون المرتبط بظروف كل مرحلة لا يمكن تكراره، وعليه فإن الهدف الأهم فى دراسة التاريخ هو تباين المقدمات والمسارات التى حكمت فترة وأحداثًا ما، ثم استخلاص ما يمكن أن يعتبر دروسًا تاريخية توضح السلبيات والمنزلقات وما ترتب عليها من مواقف، حتى يتأكد اختلاف البشر عن كائنات أخرى لا تستفيد من تراكمات ما حدث لأسلافها.
تلك مقدمة ضرورية حتى نستطيع أن نميز بين ما يسميه البعض «إسقاطًا» من الماضى على الحاضر، أى همزًا ولمزًا بطريقة غير مباشرة للحاضر، وبين ما استقرت تسميته بـ«الاعتبار» من دروس الخبرات التى تراكمت عبر الزمن.
وفى هذا الإطار لا يمكن لدارس أو كاتب أن يسقط ما جرى فى عهد إسماعيل باشا- وخاصة فى مسألتى الديون والضرائب- على مرحلتنا الحالية، حيث الظروف الموضوعية العامة مختلفة، تمام الاختلاف، ابتداء من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وصولًا إلى إسماعيل نفسه ونخبة حكمه، وأيضًا الأوضاع الإقليمية والدولية، حيث لا تبعية عثمانلية لمصر الآن، ولا وجود لامتيازات أجنبية أو قضاء مختلط، ولا وجود لمندوبين سامين من فرنسا وبريطانيا وغيرهما، ولا نفوذ بغير حدود لقناصل الدول الاستعمارية، ثم وهو الأهم لا إرادة أجنبية تعلو الإرادة المصرية، وتستطيع أن تتدخل بالقوة ولا بالدبلوماسية لإزاحة رأس الدولة وفرض غيره.
كل هذا وغيره من سمات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، لم يصبح له وجود، وأنا هنا لست بصدد المفاضلة أو المقارنة بين المرحلتين، بقدر ما أنا بصدد ما أكدته فى مقال الأسبوع الفائت، وهو الجهد العلمى المتميز للعالم المؤرخ مهضوم الحق، والذى لم ينَل هو كشخص ولا إنتاجه العلمي؛ المكانة والتقدير اللذين يستحقهما، وأقصد به الأستاذ الدكتور محمد صبرى السوربونى، وكذلك ما أردت أن أبرزه عن عصر الأسرة العلوية، وخاصة مرحلة إسماعيل، التى قد يشتط البعض فى طمسها وتجاهل إنجازاتها، من باب أن كل ما كان قبل إعلان الجمهورية سواد فى سواد، وقد يبالغ البعض فى تعظيمها وجعلها يوتوبيا مثالية يقودها عباقرة ملائكيون لا يعرف الخطأ أو السلبيات سبيلًا إليهم.
ولذلك كتبت عن بعض إنجازات عصر إسماعيل باشا، وخاصة فى التعليم، وللحق أن الإنجازات تتسع وتتشعب إلى مجالات عديدة لا يجوز إنكارها أو التقليل من شأنها، ولأجل الاتساق والاعتبار وليس النشوز والإسقاط تعين أن أشير إلى أكبر سلبية فى ذلك العصر وعنوانها العريض هو أنه يبدو- وفى غمرة الحماس للإنجاز- وفى غياب مسؤولين أكفاء بجوار الخديو، إضافة لترصد وتربص القوى الاستعمارية الأوروبية بمصر؛ لم تتم دراسة الوضع الاقتصادى، ومنه مسألة الاقتراض دراسة جادة وجيدة، مثلما نتابع الخبراء الآن الذين يقدمون الدراسات الجادة حول نسبة الدين إلى الدخل القومى، ومتى يكون الأمر خطيرًا ومتى يكون مطمئنًا.
لقد كانت نتيجة الخلل الاقتصادى فى عصر إسماعيل- كما يرصدها مؤرخنا السوربونى- أن السيطرة الأجنبية التامة تكرّست عمليًا على مصر بتعيين اثنين من المراقبين الأوروبيين فى سنة ١٨٧٦، ثم تعيين وزيرين أوروبيين فى سنة ١٨٧٨، وتكرست السيطرة الأجنبية أيضًا فى المجال الدبلوماسى عندما عُقد مؤتمر برلين الذى قام بتسوية الحرب التركية- الروسية، ودعا الأمير بسمارك فرنسا للمشاركة فيه، فاشترط وزير خارجيتها المسيو وادينجتون عدة شروط مسبقة بهدف جعل شؤون مصر خارج المداولات، وأن تعامل على أنها مسائل تخص فرنسا وإنجلترا فقط، ثم إن البؤس ازداد حدة فى مصر عام ١٨٧٧، إذ جاء الفيضان منخفضًا وظهرت نتائجه فى السنة التالية، ومع ذلك أصرت الدول الأوروبية على أن تسدد مصر أقساط الديون، وطبعًا كان القهر والتعسف يصاحبان جباية الضرائب.
ثم إن سلطة الخديو تلاشت وقامت أوروبا بالتشهير بأخطائه، وكان هدفها المؤكد هو مصادرة سلطة الخديو لصالحها.
إننى لم أشأ التطرق لتفاصيل ديون الخديو إسماعيل، ولا التطرق للترف الباذخ المفرط الذى كان يعيش فيه هو والطبقة المحيطة به، ولمن يريد أن يطالع- ليعرف ويفهم ويستخلص الدروس للاعتبار وليس للإسقاط- أن يقرأ المراجع التاريخية، وفى مقدمتها كتاب «نشأة الروح القومية المصرية ١٨٦٣-١٨٨٢» لمؤلفه الدكتور محمد صبرى السوربونى.
نقلا عن المصرى اليوم