بقلم: عماد توماس
الحاجة الآن ملحة لاستدعاء تاريخ شخصيات تاريخية وطنية مثل "سينوت حنا" السياسي المصري الوطني الوفدي الذي مارس المواطنة الحقيقية بعيدًا عن الشعارات البراقة، سينوت حنا كاد أن يضع حياته من أجل مصطفى النحاس باشا، ففداه من محاولة اغتيال فاشلة عندما تصدى لطعنة غادرة من أحد الجنود الكارهين للنحاس فانغرست الطعنة في أعلى ذراعه الأيمن وتدفقت دماءه الطاهرة على ملابس النحاس باشا، وصف الأطباء حالته علي النحو التالي: "جرح في أعلى الذراع اليمنى عند المفصل بعمق 70 ملليمترًا وباتساع 10 سنتيمترات وكسر في إحدى عظمتي الذراع ويحتاج إلى علاج أربعة أسابيع". وجاء صوته خافتًا "الحمد لله إذ لم يصب الرئيس -النحاس- بشيء".
وفي خطابه بالمنصورة تحدث مصطفى النحاس عن إصابة سينوت حنا قائلاً: كان عن يساري وكانت الطعنة مصحوبة إلى ظهري، فدافع عني وتلقى الطعنة بذراعه، حفظه الله، ووصف النحاس.. سينوت حنا قائلاً أنه "أعز عزيز على نفسي من نفسي".
لمحات تاريخية
ولد سينوت حنا (1874-1933) بمحافظة أسيوط من أسرة تنتمي لكبار أغنياء الصعيد، كان في البداية صديقًا شخصيًا لمصطفى كامل زعيم الحزب الوطني، ووثيق الصلة بعضو اللجنة الإدارية للحزب الوطني "ويصا واصف". وفي الشهر الأخير من حياة "مصطفى كامل" عام 1908 كان ناظر المعارف "سعد زغلول" في جولته الشهيرة بالوجه القبلي لتفقد المعاهد العلمية، وفي 18 يناير تناول سعد باشا طعام العشاء في منزل مدير أسيوط، حضر هذا العشاء "سينوت حنا" ووقف "سينوت حنا" ضد محاولة "أخنوخ فانوس" تشكيل حزب طائفي باسم "الحزب المصري".
وفي المؤتمر القبطي الذي عُقد بأسيوط في 6 مارس 1911 نسق سينوت حنا جهوده مع أخيه بشرى حنا الذي أُختير رئيسًا للمؤتمر للحيلولة دون العناصر الجامحة، وساعدهم في ذلك مطران أسيوط فرفعوا العلم المصري على المؤتمر، وتصاعدت الدعوة للوحدة الوطنية، وكان سينوت حنا أمين صندوق المؤتمر. وعام 1914 وقف سينوت حنا إلى جانب سعد زغلول في مواجهة عدلي يكن في الجمعية التشريعية. وفي 8 إبريل عام 1919م سافر سينوت حنا مع أعضاء الوفد إلى باريس وبقى إلى آخر يوم قرر فيه "الرئيس سعد" أن يبقى.
المناضل القبطي المسيحي
وهب سينوت حنا نفسه لخدمة الأمة المصرية، وظل إلي جانب سعد منذ تكوين الوفد، وكان عضوًا في الجمعية التشريعية، وبزغ نجمه مع انصهار الأقباط والمسلمين في بوتقة ثورة 1919 وأخذ يكتب مقالات نارية، مما دفع السلطة العسكرية البريطانية إلى تعطيل صحيفة "مصر" الوفدية بسبب هذه المقالات ثم إبعاده عن القاهرة وتحديد إقامته في مدينة الفشن "بالوجه القبلي".
وجاء وقت أصدر فيه الفيلد مارشال اللنبي أمرًا بمنع سعد زغلول وسينوت حنا وثمانية من أعضاء الوفد من القيام بأي عمل سياسي ثم تقرر ترحيله إلى المنفى في جزيرة سيشل مع سعد زغلول ومصطفي النحاس ومكرم عبيد.
كان عمله في صمت ووقار وكان الله قد عصمه من بريق الألقاب والمناصب ذلك لأن إيمانه بمصر وحقها إيمانًا خالصًا صافيًا. وقد بادله سعد زغلول حبًا بحب فكان لا يدع يومًا يمر دون أن يراه، ولا يقطع برأي دون مشورته فأحبه سعد زغلول أكثر وعندما نفى سعد المرة الأولى إلى مالطة برز سينوت حنا ضمن الصف الثاني وكان ضمن الموقعين للنداء الموجه للشعب في 24 مارس1919م ينصحونه بالتزام الهدوء وكان الشهداء يسقطون بالألوف من أقصى البلاد إلى أقاصيها فناشدوه بالهدوء حرصًا على حياته ولكنه لم يهدأ. وكان اسم سينوت في هذا النداء إلى جانب ستة آخرين من القبط على رأسهم البابا الأنبا كيرلس الخامس.
دأب على كتابة المقالات في الصحف بلا هوادة وكان في كتاباته كلها لسان الوفد ضد الحكومة وضد سلطة الاحتلال. وقد لفتت مقالاته الأنظار إليه وأحاطته بشعبية واسعة, كما كان من أكبر الأثر في إثارة الجماهير واشتعال المظاهرات ضد الاحتلال، وبالتالي أدت إلى سقوط وزارة سعيد باشا.
من أكبر الأدلة على تعاطف الشعب مع سينوت حنا رسائل التأييد التي ازدحمت بها الجرائد وتسمية الجماهير له "بالنائب الحر الجريء" وتقديم التجار التحية له في إعلاناتهم.
استبعدته السلطة البريطانية لشعبيته المتصاعدة لعزبته بالفشن, بمناسبة وصول لجنة مليز فأقام بعيدًا عن القاهرة عدة أسابيع فودعته الجماهير واستقبلته بحرارة, وكان من بينهم علماء الأزهر, فكان يقوم بزيارة شيخ الجامع الأزهر فى كل مرة يصل فيها إلى القاهرة.
الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا
كان لسينوت حنا مقالات وخطب وطنية مشهورة في جريدة مصر, مناديًا خلالها بالاستقلال وبالوحدة الوطنية. وأما المقالات التي كان لها الأثر العميق والتي كان ينشرها تباعًا فى جريدة البلاغ فكانت بعنوان "الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا". وكان يوقع عليها باسمه مقرونة بعبارة "عضو الوفد المصري والجمعية التشريعية". وقد جاء فى أول هذه المقالات: "لا قبطي ولا مسلم وإنما كلنا أمام الوطن مصريون" وأنه ليكفي للإنسان أن يذكر أوائل الشهداء الذين جادوا بأرواحهم مسلمين وأقباط فداءًا للوطن المصري.
وهو يعتبر مبتكر التعبير "الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا" فقد تلقفته الأقلام بصيغ متعددة مثل دين الحرية ودين الوطنية والاستقلال فأصبحت هذه العبارات مترادفة مع اسمه.
الرحيل المبكر
اعتلت صحة سينوت حنا، وتوفى في سن مبكر في داره برمل الإسكندرية مساء يوم الأحد 23 يوليو 1933، وألقى مصطفي النحاس خطابًا على قبره تناول فيه عمق مشاعر الحب لدى سعد زغلول و"صفية" أم المصريين لابنها وأخيها سينوت حنا، وأعلن أنه مدين له بحياته، حيث تلقى عنه طعنة أثيمة من يد أثيم.
سينوت حنا يستحق أن تُقدم حكايات وعِبر من سيرته للأجيال الصاعدة، والإعلان عن تضحياته لعلها تكون نبراسًا يهتدي به كل أبناء هذا الوطن، من أجل وطن حر يقبل الجميع ويؤمن بالتنوع والتعدد بعيدًا عن مدّعي الوطنية ومزيفي التاريخ.
هوامش
موقع: معرفة
موقع: جريدة الوفد
مدونة: بكار