(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
إنَّ الإنسان "يعيش حياته" بين قاب قوسين: الميلاد والموت؛ وما يكمن بين ميلاده وموته يُسمّى "نموًّا" أو "حياة". فهو يلعب حياته ويعرف أنَّها ليست لُعبةً، وإنَّما هي مسيرة نحو الموت عاجلًا أم آجلًا. وبعضهم يموت قَبل أنْ يولد، وكثيرون يموتون بعد أنْ يمرضوا، وآخرون يموتون دون مرض. ولكن إذا الإنسانُ يولد، فلماذا يموت؟ وإنْ كان يموت، فلماذا يولد؟ وإنْ كان يولد في الحياة، وهي فيه، فلماذا يفقدها؟

إنَّها أسرار: سرّ الميلاد، سرّ النموّ، سرّ الحياة، سرّ الموت. أجل، إنَّها أسرار نحاول أنْ نتوغّل فيها أحيانًا وهي تتغلغل فينا دائمًا. فلماذا الوجود وليس العدم؟ ولماذا وجودنا بالأحرى مِن عدمنا؟ وما مَعنى أنْ يصبح الجنينُ طفلًا، والطفلُ صبيًّا، والصبيُّ شابًّا، والشابُّ رجلًا، والرجلُ كهلًا، والكهلُ ترابًا، والترابُ حياةً؟ كيف وما مَعنى أنْ تصبح حبّةُ القمح عشبًا، والعشبُ سنبلًا، والسنبلُ قمحًا، والقمحُ خبزًا، والخبز مأكلًا، والمأكلُ جسدًا، والجسدُ ترابًا، والترابُ تربةً صالحةً لاستقبال حبّة قمح مِن جديد؟ لماذا موتنا وليست حياتنا إلى الأبد؟

ما نريد أنْ نتأمّل فيه الآن ليس الميلاد ولا النموّ ولا الحياة ولا المرض ولا الموت في حدّ ذاتهم، وإنَّما المَعنى وراءهم؛ فهو الهاجس الملحّ الذي يشغل عقلنا وقلبنا للتفكير فيه: هل مِن مَعنى وراء الميلاد والنموّ والحياة والمرض والموت؟ قد يموت الإنسانُ قَبل أنْ يمرض وقَبل أنْ يولد، وقد يمرض دون أنْ يموت، وقد يموت بعد أنْ يمرض. إنَّها ثلاث وقائع تحدث يوميًّا أمام أعيننا، وتشير بدورها إلى ثلاث حالات يمرّ بها الإنسان كإنسان. وهي تعبّر عن ثلاثة أشكال للصلة بين المرض والموت: فثَمَّة موت دون مرض أو دون ميلاد، وثَمَّة مرض دون موت، وثَمَّة موت بعد مرض. ففي الحالة الأولى، قد تمكّن الموت مِن الفرار مِن المرض والميلاد؛ وفي الحالة الثانيّة، هرب المرض مِن الموت مؤقّتًا؛ أمَّا في الحالة الثالثة، فقد قضى الموت على المرض أو ربّما جلب المرضُ الموتَ!

ثَمَّة حالة أخرى تسمو وتفدي هذه الحالات الثلاثة التي يعيشها الإنسان، ولكنّ هذه الحالة الأخيرة لا يمرّ ولا يمكن أنْ يمرّ فيها أيّ إنسان منّا أيًّا كان دون معونة آخر؛ إنَّها حالة الانتصار على الموت والمرض مِن خلال الموت، أعني موت يسوع الناصريّ. فهو الأوّل والأساس والسبب والنموذج لهذه الحالة الأخيرة، أيْ إنّه هو الذي عبر مِن الموت إلى الحياة ("سرّ الفصح")، لأنَّه عبر مِن الحياة إلى الموت ("سرّ التّجسّد"). فيسوع المسيح، مولود بيت لحم، والفقير والجائل في شوارع فلسطين القديمة، ومصلوب الجلجثة، والقائم مِن بين الأموات، هو أساس وسبب ونموذج قيامتنا مِن بين الأموات. فهو –بميلاده ونموّه وحياته وموته وقيامته– مَن يعطينا أنْ نجد المَعنى الحقيقيّ لميلادنا ونموّنا وحياتنا ومرضنا وموتنا وقيامتنا؛ لأنَّه هو "آدم الجديد"، أيْ الإنسان الحقيقيّ والكامل والجديد (راجع روم 5/ 12-21؛ 1 كو 15/ 1-58).

ولذا فقد أصاب الفيلسوف والثيولوجيّ بسكال عندما قال: «ليس فقط لا نعرف الله إلاَّ بيسوع المسيح، وإنَّما أيضًا لا نتعرّف على أنفسنا ذاتها إلاَّ بيسوع المسيح. ولا نعرف الحياة ولا الموت إلاَّ بيسوع المسيح. فخارج يسوع المسيح، لا نعرف ما هي حياتنا، ولا ما هو موتنا، ولا الله، ولا أنفسنا ذاتها. وهكذا، دون الكتاب المقدَّس، الذي ليس له غرض سوى يسوع المسيح، لا نعرف شيئًا البتّة، ولا نرى شيئًا سوى الظلام والالتباس في طبيعة الله وطبيعتنا».

[جزءٌ من مقالٍ نُشِر في "مجلة الصلاح"، عدد سبتمبر-أكتوبر 2020]