نيفين مسعد
لم يدر بخلدي أن هذه اللوحة التي أحتفظ بها في بيتي لبعض شخصيات أوبريت الليلة الكبيرة للعظيم صلاح چاهين، هي من إبداع نفس الشخص الذي أكلمه في التليفون. خطفتني شخصيات اللوحة التي تتفجّر بالحياة فلم أدقّق في اسم الفنان الذي أبدعها، وعندما صارت معي اللوحة وجدتني أتوّحد مع كل تفاصيلها المدهشة فإذا بي أكاد أسمع زئير الأسد ينبعث منها، وأرى رأْي العين تمايل الراقصة على أنغام طار في الهوا شاشي وانت ما تدراشي يا جدع، بل تخيلتني أمشي في ركاب زفة المتطاهر وأرّش الملح مع أمه سبع مرات. فقط عندما تواصلتُ مع الفنان إبراهيم البريدي وأخذنا الكلام عرفت أنه هو، أما لماذا تواصلتُ مع إبراهيم البريدي وقد كان الإعجاب بيني وبين لوحاته من قبل إعجابا صامتا، فالسبب بسيط جدا ولطيف جدا.
• • •
دعا إبراهيم البريدي على صفحة الفيسبوك متابعيه لتزويده بقصاقيص ملوّنة يصنع منها لوحات معرضه ووعد مَن يتجاوب معه بلوحة هدية من صنع يديه. لاحقًا كتب البريدي يشكر أصدقاء صفحته على تفاعلهم معه، وعرفت منه أن سيدة من الإسكندرية أرسلَت له سبع حقائب ممتلئة بالقصاقيص، فأحببتُ العرض وأحببتُ الاستجابة. من فرط ما يحيط بنا القبح من كل صوب تصوّرت أننا تطبعنا معه وتعوّدنا عليه ولم نعد ننفعل للجمال ولا نتذوّق الإبداع، فإذا بلَقطة مثل لَقطة البريدي ومتابعيه تأتي لتثبت لنا أن الشخصية المصرية يسكنها في العمق حب الفن، وأنه لا ينقصها إلا مَن ينبش فيها ويفتش داخلها لتتفجّر شلالات الحب معلنةً عن نفسها. وعندما تحدثتُ مع البريدي اكتشَفتُ ما هو أجمل، فالأمر لا يقتصر على تزويده بثروة ثمينة من القصاقيص الملوّنة التي تنشر البهجة، لكن متابعيه يساعدونه أيضًا على مزج لوحاته بالأغاني والمأثورات والأمثال الشعبية كما اعتاد دائمًا أن يفعل. وفي معرضه الأخير الذي يدور حول الجَمَل قام البريدي باستدعاء العديد من هذه الأمثال والأغاني، فالمصريون في عمومهم يحبّون الجمل ويعتبرونه رمزًا لكل شئ كبير وعظيم. يرسمونه على جدران بيوت الحجاج والمعتمرين كرمز لذروة السعادة الروحية، وفي الوقت نفسه يضربون به المثل على شدّة الحزن كما نجد حين تنوح المرأة على "سَبعها وجملها". يجعلونه مقياسًا للحقيقة واختبارًا للصدق "قالوا الجمل طلع النخلة.. آدي الجمل وآدي النخلة"، وفي الوقت نفسه يحللّون به السرقة عند اللزوم "إن عشقت اعشق قمر وان سرقت اسرق جمل". وهكذا هي الثقافة الشعبية المصرية فيها شئ من كل شئ، وفيها المعنى وعكسه، وهكذا هي أعمال البريدي التي تغترف من هذه الثقافة. إنه ابن محافظة الغربية الذي يستوحي من طيورها وحيواناتها وموالدها وأسواقها وأطباقها وأهلها المادة الخام للوحاته، ويحوّلها بموهبته الفطرية وبقدرة قادر إلى قصاصات متمازجة الألوان ثم يخيطها على لوحاته.. لا فرشاة ولا كتل ولا أبعاد ولا مقاييس، فقط مقص وإبرة وخيط وقطع من القماش الملون بلا عدد.
• • •
كانت الصدفة البحتة هي التي أدّت إلى تحوّل إبراهيم البريدي من رسّام كاريكاتير إلى فنان تشكيلي. مرّ في صبيحة أحد الأيام بامرأة تبيع قصاصات القماش بالكيلو في سوق حي المرج فأعجبته الفكرة واشترى منها اثنين كيلو. لم يدر بذهن هذه المرأة البسيطة أن قصاصاتها ستقلب حياة البريدي رأسًا على عقب، فمن هذه اللحظة ارتبط اسم البريدي بنوعٍ مختلفٍ من الفن اختار له بعفوية شديدة اسمًا مستوحىً من المكان والأسلوب: مرج خيط. هذا الفن يحتفي بالخيط ولا يداريه، ويعتمد على الإبهار بالألوان الفاقعة المتناغمة، ويكسر القوالب النمطية والصور الذهنية السائدة عن كل شئ وأي شئ. هل كان يتصوّر أحد أن يبيع شارلي شابلن العرقسوس في الحارة المصرية؟ حدث مع البريدي أن تحوّل شارلي شابلن إلى بائع عرقسوس ويدخن الشيشة أيضًا. أو كان يتصوّر أحد أن فنانًا تشكيليًا يصف نفسه بأنه ينّونو كالقطط؟ حدث أن حمل أحد معارض البريدي عنوان "البريدي ينّونو". المثالان السابقان لا يعطيان فكرة فقط عن تعمّد البريدي الخروج على المألوف، لكنهما يدلّلان أيضًا على روحه اللطيفة الفكهة، وإلا لماذا اختار شارلي شابلن دونًا عن خلق الله ليجعله يبيع العرقسوس؟ كان بإمكانه أن يختار مارلون براندو من الزمن القديم أو ويل سميث من الزمن الحالي لكنه اختار أن يجعل بطل معرضه ظريفًا من الظرفاء. حتى عندما أقام معرضًا عن الهمّ قبل اثني عشر عامًا اختار نوعًا ساخرًا من الهمّ هو "همّ يضحّك". يقول البريدي إنه يصنع لوحاته ليسعد نفسه ويبهج الناس وإن بداخله طفلا كبيرا، وأنا مثله أؤمن أن الإنسان السعيد قادر على إسعاد غيره وأن الطفل أفضل موصّل للبهجة.
• • •
وكما لم يكن يعلم البريدي أنه سيتحوّل من فن الكاريكاتير للفن التشكيلي بعد جولته في سوق المرج، فإنه لم يكن يفطن إلى أن چينات الإبداع فيه مصدرها الست أم إبراهيم. كان ربما يتصوّر أنه فلتة أسرته وأول بختها في مجال الفن، حتى أتت الست أم إبراهيم لزيارته في الصيف كعادتها وطلبَت منه أن تنفّذ بنفسها لوحة من قصاصات القماش. وبالفعل انتهت من أول لوحة وكانت النتيجة مدهشة، فانتقلَت إلى الثانية والثالثة والرابعة حتى وصلَت إلى عشرين لوحة بالتمام والكمال، وأصبح بإمكانها أن تنظّم أول معرض من بنات أفكارها. الموهبة شئ والتعليم شئ آخر، تولد الموهبة وتستمر وتتوهّج بدون تعليم أما التعليم فإنه يصقل الموهبة لكن لا يخلقها. وهؤلاء النساء الرائعات اللائي يبدعن في صنع السجاد والشيلان واللوحات في قرية الحرّانية هن فنانات بالفطرة لا ورقة ولا قلم. وهكذا أيضًا نجحَت الست أم إبراهيم التي لم تتعلم القراءة والكتابة في تنظيم أول معرض لها، وأنتجَت إحدى الفضائيات العربية الشهيرة فيلمًا تسجيليًا عنها هي ومعها فنانة من لبنان وأخرى من الجزائر.
• • •
قبل أيام فتح البريدي نقاشًا مع متابعيه وسألهم عن أغاني الورد في الفن المصري فانهالت عليه أغاني: مين يشتري الورد منّي، وعلى خدّه يا ناس مية وردة، ويا بِدع الورد يا جمال الورد، والورد له في روايحه لغات، ويا وردة الحب الصافي، ويا ورد مين يشتريك، وورد عليه فل عليه.. ففهمنا أنه يجهّز لمعرض عن الورد في فصل الربيع، ورجوته ألا ينسى أنه كان لدينا من الجزائر وردة.
نقلا عن الشروق