اليوم تحتفل الكنيسة بتذكار نياحة القديس يوحنا التبايسى بجبل اسيوط (٢١ هاتور) ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤
في مثل هذا اليوم تذكار نياحة القديس يوحنا التبايسي. والقديس يوحنا الأسيوطي ويُدعى ايضا يوحنا الرائي إذ كانت له موهبة التنبؤ بالمستقبل، كما دُعي نبي مصر، ويوحنا السائح. قال عنه القديس يوحنا كاسيان: "نال موهبة النبوة من أجل طاعته العظيمة، فصار مشهورًا في كل العالم".

رآه القديس جيروم على أطراف مدينة ليكوس (أسيوط)، ووضعه في قائمة كتابه "مشاهير الآباء"، في الفصل الثاني وتحدث عنه في شيء من التفصيل، خاصة حديث القديس يوحنا معه هو ورفقائه، وهو حديث روحي عملي ممتع، اقتبس منه القليل.

ويلقب أيضًا بيوحنا المتوحد الأسيوطي لأنه وُلد بمدينة أسيوط عام 305 م. كان أبواه مسيحيين، وكانت صناعته النجارة والبناء. في سن الخامسة والعشرين تنيّح والداه فسلَّم أخته وأمواله لعمه ثم ذهب لدير أنبا مقار حيث ألبسه الأنبا إيسيذورُس والأب أبامون الإسكيم.

وظهر له ملاك بعد خمس سنوات وقال له: "قم امضِ إلى جبل أسيوط"، فجاء إلى الجبل الغربي على بعد خمسة أميال من مدينة أسيوط حيث بنى له ثلاث قلايات على سفح جبل قرب طيبة لهذا دُعي يوحنا التبايسي أو الطيبي: إحداها لحاجات الجسد، والثانية يعمل بها ليكسب خبزه، والثالثة للصلاة.

وخلال الثلاثين عامًا التي قضاها هناك كان يحصل على حاجاته من خلال طاقة، يقدمها منها خادمه. وكان من عادته أن يلتقي بالناس يومي السبت والأحد من خلال نافذته لإرشادهم وتعزيتهم.

وقال لبلاديوس: "إنني قد حبست نفسي ثمانية وأربعين عامًا في القلاية لم أرَ فيها وجه امرأة، ولا رأيت نقودًا، كما أنني لم أنظر إنسانًا وهو يأكل، ولا رآني أحد آكلًا أو شاربًا".

واشتهر القديس بطاعته لمعلميه وأيضًا بموهبة شفاء الأمراض، وقد استحق أن يحصل على موهبة معرفة الأمور قبل حدوثها. وقد أنبأ الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير بانتصاره على الثائر مكسيموس.

وذات مرة أرادت خادمة للمسيح اسمها بؤمينيا، وهي من أقارب الإمبراطور ثيؤدوسيوس، أن ترى القديس يوحنا، ولكنه رفض وأرسل لها كلمات معزية. ومما قاله لها: "لا تسلكي طريق الإسكندرية في رجوعِك لئلا تقعي في تجارب". إلا أنها نسيت هذه النصيحة فتعرضت لحادثة من بعض الأشرار الذين سطوا على المركب في النيل وضربوا خادمها، وبذلك جنت ثمرة النسيان لنصيحة القديس يوحنا.

و قد زاره بالاديوس الذي سافر 18 يومًا حتى وصل إليه، وتنبأ له أن يُسام أسقفًا . وبعد 25 عامًا من هذه الزيارة سجل لنا سيرته في كتابه "التاريخ اللوسياكي".

كما زاره كاتب "تاريخ الرهبنة والذي ترجمه روفينوس إلى اللاتينية.

وروى لنا بالاديوس قصة لقائه مع هذا القديس، فقال أنه إذ كان في برية نتريا مع الأب أوغريس سأله عن فضائل القديس يوحنا الأسيوطي، فقال أنه يشتاق أن يعرف شيئًا عنه.

وفي اليوم التالي حبس بالاديوس نفسه في قلايته طول اليوم يطلب إرشادًا من الله. شعر باشتياقٍ للقاء معه، فسافر تارة مشيًا على الأقدام، وأحيانًا في النهر، وكان وقت فيضان النيل، وكانت الأمراض الصيفية منتشرة، فصار فريسة لها.

وإذ بلغ إلى الموضع وجد مسكنه مغلقًا فانتظر حتى يوم السبت صباحًا. جاء إليه فوجده جالسًا عند نافذته يقدم مشورة لسائليه. حيّاه القديس يوحنا وتحدث معه خلال مترجم. وإذ جاء اليبسيوس والي المنطقة تحوّل إليه ليتحدث معه، وظلا يتحدثان مدة طويلة.

فشعر بالاديوس بضيق وإهانة أنه تركه، لكن سرعان ما قال القديس للمترجم أن يخبره ألا يقلق. وإذ انصرف الوالي دعاه القديس وتحدث معه، وجاء في حديثه:

[لماذا أنت غاضب مني؟... لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضي (لو31:5). فإني إن كنت لا أقدم لك مشورة، يوجد إخوة وآباء آخرون يُعطوك مشورة. أما هذا الوالي فسلم نفسه للشيطان وقد جاء يطلب معونة. فليس من المعقول أن نتركه لأنك مهتم بخلاصك..أحزان كثيرة تنتظرك...

يقترح عليك الشيطان الرغبة في رؤية أبيك وأن تعَّلم اخوتك الحياة التأملية.

عندي لك أخبار سارة وهي أن كل منهم تحول إلى طريق الخلاص.

 ثم سأله القديس يوحنا: "أتريد أن تكون أسقفًا؟"
أجابه بلاديوس: "أريد فعلًا".
سأله: "أين؟"

أجاب: "في المطبخ على الموائد والأواني. أفحصها كأسقف ناظرٍ عليها، وإذا وجدت محتوياتها رديئة أحرمها وإذا وجدت الطعام محتاجً إلى ملح أو توابل أضعها. هذه هي إيبارشيتي، لأن شهوة بطني عيّنتني ابنًا لها".

فابتسم وقال له: "كف عن التلاعب بالألفاظ. إنك ستُسام أسقفًا وتُقاسي من ضيقاتٍ كثيرة. فإن أردت الهروب من الضيقات فلا تترك البرية لأنه لا يوجد فيها أحد له سلطان أن يسيمك أسقفًا".

وبعد ثلاث سنوات نسي بالاديوس هذه النصيحة، وإذ أصيب بمرضٍ في الطحال والمعدة أخذه الإخوة إلى الإسكندرية. نصحه الأطباء أن يذهب إلى فلسطين لأن مناخها أنسب له. ومن هناك ذهب إلى بثينية بجوار غلاطية موطنه الأصلي، وسيم أسقفًا. نُفي وحُبس في حجرة مظلمة لمدة 11 شهرًا فتذكر ما قاله له القديس يوحنا.

وظن أربعة لصوص أن لديه كثرة من الأموال بسبب تحاشد الجماهير عليه لنوال موهبة الشفاء أو التمتع بمشورة روحية. في الليل نقبوا باب المغارة فأُصيبوا بالعمى وظلّوا خارج القلاية حتى الصباح، أرادت الجماهير تسليمهم للوالي أما هو فقال: "اتركوهم، وإلا تفارقني موهبة الشفاء".

وكانت إحدى النساء تلح على رجلها أن ترى القديس. وجاء الرجل وهو من الأشراف يطلب من القديس أن يسمح لزوجته أن تراه، فكانت إجابته: "هذا الأمر مستحيل". وإذ صممت الزوجة ألا تسافر حتى ترى القديس، قال القديس يوحنا لرجلها: "سأظهر لها في هذه الليلة، لكن لن أسمح لها أبدًا برؤية وجهي بالجسد".

وفي الليل ظهر لها القديس في حلم، وقال لها: "ما عسى أن أفعل لك يا امرأة؟ لماذا تحرصين بشدة أن تري وجهي؟ هل أنا نبي أو بار؟ إني خاطئ وشهواني مثلك، وها قد صلّيت من أجلك ومن أجل زوجك ولموضع إقامتك، فإن آمنتِ يكون لكِ، فسافري بسلام". وإذ قامت من نومها روت لرجلها ما رأته وسمعته ووصفت له شكله وهيئته، وقدمت الشكر لله. وإذ رأى القديس يوحنا رجلها قال له قبل أن يتكلم: "لقد حققت طلب زوجتك ورجاءها، وعليك ألا ترى وجهي بعد"، فانصرف بسلام.

ويروي لنا القديس جيروم: "كان القديس لا يُجري معجزات الشفاء جهرًا، بل كان يصلي على الزيت ويعطيه للمتألمين والمرضى فيبرءون".
وكان يتحدث مع القادمين إليه ويخبرهم بما فعلوه سرًا، كما كان يشير إلى غضب الله وما سيحل عليهم من كوارث بسبب خطاياهم.

ويقول القديس جيروم:
[لقد رأينا عجائب، فقد كنا سبعة أجانب، ذهبنا إلى القديس، وبعد السلام فرح بنا.وطلبت منه قبل كل شيء أن يصلي من أجلنا كعادة كل آباء مصر. ثم سألني إن كان بيننا كاهن أو شماس، وإذ قلنا له أنه لا يوجد عرف أن بيننا شماس أخفى رتبته تواضعًا. أشار إليه القديس بيده قائلًا: "هذا هو الدياكون"، وأخذ القديس يده من خلال النافذة وقبّلها، وطلب منه ألا ينكر نعمة الله المعطاة له، سواء كانت صغيرة أو عظيمة.

وإذ كان أحدنا يرتعش وهو مريض بحمى شديدة طلب من القديس أن يُشفيه، فقال له: "هذا المرض لصالحك، لأنه قد ضعف إيمانك، ثم أعطاه زيتًا وطلب منه أن يدهن نفسه به، كما رسمه بالزيت فتركته الحُمى وسار على قدميه معنا.

ويكشف لنا القديس جيروم عن محبته العجيبة واهتمامه بالآخرين وبشاشته إذ يقول:
رحَّب بنا القديس كأولاد لأبيهم لم يلتقوا به منذ مدة طويلة.

وأجرى معنا حوارًا، وقال: "من أين أتيتم يا أبنائي؟
ومن أيّ بلد؟
لقد أتيتم إلى إنسانٍ مسكينٍ وبائس!"
وقد ذكرنا له اسم بلدنا، وأننا جئنا إليه من أورشليم لمنفعة نفوسنا...
ثم قال: "... لا يظن المرء أنه قد اقتنى معرفة كاملة، بل القليل جدًا منها. يليق بنا أن نقترب إلى الله بطرق معتدلة وبإيمان. وأن يبتعد محبْ الله عن الماديات حتى يقترب إلى الرب ويحبه. كل من يبحث عن الرب بكل قلبه يبتعد عن كل ما هو أرضي!"

ويليق بنا أن نهتم بمعرفة الله قدر المستطاع، لأنه لا يمكن الحصول على معرفة كاملة عنه. وهو يكشف لنا بعض أسراره. وسيعرف المرء ما سيحدث قبل وقوعه، وتُعلن له رؤى مجيدة، كما ظهرت للقديسين، ويعمل أعمالًا عظيمة، وكل ما يطلب من الله يعطيه...

لا تيأسوا في هذا البلد لأننا في وقت محدد سنُرسل إلى عالم الراحة. ولا يتعالى أحد بأعماله الصالحة بل يظل في حالة توبة دائمة...
الحياة الديرية بجوار القرى قد أضرت الكاملين...

أرجو يا أبنائي من كل واحدٍ منكم قبل كل شيء أن يعيش حياة التواضع، لأنه أساس كل الفضائل.

روى لهم أيضًا أمثلة لرهبان سقطوا وتابوا فبلغوا درجات عظيمة في الروحانية، كما حدثهم عن متوحدين كانوا يحرصون على خلاصهم وكمالهم في الرب.

وأشار إلى متوحدٍ لم يهتم بالطعام سواء كان حيوانيًا أو نباتيًا، بل كان قلبه متعلقًا بالرب، مترقبًا مغادرته للعالم، فكان الله يكشف له عن أمجاد الدهر الآتي، وكان جسده مملوء صحة حتى شيخوخته، وكان يجد طعامًا على مائدته. كان كثير التسبيح فلا يشعر بالجوع.

ويختم القديس جيروم الفصل بقوله أن القديس يوحنا كان يتحدث معهم بكلمات ومحادثات لمدة ثلاثة أيام حتى الساعة التاسعة، أي الثالثة بعد الظهر، وقد أخبرهم بوصول رسالة إلى الإسكندرية تُعلن عن نصرة الإمبراطور ثيؤدوسيوس وقتل الطاغية أوجينيوس (عام 394 م)، وقد تحقق كل ما قاله.

وله مؤلفات عديدة عن الرهبنة والآلام والكمال والفضائل واللاهوت والصلوات وتفسير لبعض آيات العهد الجديد، كما اشتهر بأقواله عن محبة الله وعمل الرحمة وملكوت السموات. وأخيرًا تنيّح بسلام بعد أن قارب المائة عام، وذلك في اليوم الحادي والعشرين من هاتور، وتعيد له الكنيسة الغربية في 27 مارس.

بركه صلواته تكون معنا آمين...
ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين...