أحمد الجمال
تساعدنى القراءة عن عصر النهضة الأوروبية فى تعويض ما يستبد بى من نقص مرتبط بتعثر مشاريع النهضة المصرية والعربية.

وكثيرًا ما أشير إلى دور الأسر الإيطالية الثرية فى فلورنسا وتوسكانيا فى التأسيس لتلك النهضة وبناء صروحها من مكتبات عامة وجامعات ومتاحف، وأيضًا- وهو مهم للغاية- رعاية العلماء والأدباء والفنانين، لدرجة وصلت إلى حمايتهم من بطش الكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا.

أشير إلى ذلك إذا تصادف وكنت فى ندوة أو لقاء، أو حتى جلسة عابرة، واتصل الحوار بدور الرأسمالية ومجتمع الأعمال المصرى والعربى فى التحديث والتنوير والسعى لنهضة شاملة، دون النظر إلى ربح مادى أو شهرة زائفة.

وكانت أسرة مديتشى الإيطالية نموذجًا فذًا لما أتحدث عنه، وكان أميرها الأشهر لورنزو العظيم الذى عاش فى الفترة من سنة ١٤٤٩ إلى سنة ١٤٩٢ هو من نذر نفسه وثروته وسلطته لتأسيس النهضة ورعاية العلماء والأدباء والفنانين.

وبالمناسبة فإن أسرة مديتشى قد أنجبت غير لورنزو اثنتين من أشهر ملكات فرنسا، هما الملكة كاترين دى مديتشى ١٥١٩- ١٥٨٩، وهى ابنة لورنزو الثانى، عاهل فلورنسا، وزوجة هنرى الثانى ملك فرنسا، وأم ثلاثة ملوك هم فرانسوا الثانى وشارل التاسع وهنرى السابع، وهى التى دبرت مذبحة «سان بارتولوميو» التى هلك فيها كثير من البروتستانت.. أما الملكة الثانية فهى مارى دى مديتشى ١٥٧٣- ١٦٤٢، ملكة فرنسا بزواجها من هنرى الرابع، ثم أصبحت بعد وفاته وصية على عرش فرنسا أيام حكم ابنها لويس الثالث عشر، وهى التى عينت الكاردينال ريشيليو، رجل الدولة الخطير، رئيسًا للوزراء، ثم اصطدمت به وتصارعت معه وماتت فى المنفى.

ومن بين العلماء والمفكرين والأدباء والفلاسفة الذين رعاهم وحماهم لورنز العظيم دى مديتشى يبرز اسم «بيكوديللا ميراندولا» ١٤٦٣- ١٤٩٤، الذى لفت نظرى وتابعت سيرته، لأننى انبهرت بأنه درس وأجاد اللغة اليونانية، ومعها أجاد أيضًا اللغات العبرية والعربية والآرامية والكلدانية، ويقول الدكتور لويس عوض فى كتابه «ثورة الفكر فى عصر النهضة الأوروبية».

والذى استعنت به فى كتابة هذه السطور، إن «بيكو» درس الشعر العربى على يد الأستاذ راموزيو، مترجم ابن سينا، واشترك فى المعركة الفلسفية التى دارت فى جامعة بادوا بين أنصار ابن رشد وخصومه.. ولأنه أجاد العربية فقد كان مطلعًا على نصوص القرآن الكريم، ومن هنا ربما جاء موقفه من طبيعة السيد المسيح وحياته ومماته، وهو موقف استنكرته الكنيسة الكاثوليكية فى روما، واعتبرته زندقة وتجديفًا وليس من الإيمان السليم، لأن ميراندولا قال إن السيد المسيح لم يُدفن فى العالم السفلى، أى لم يُدفن فى القبر.

وحسب لويس عوض، فإن بيكو ميراندولا كان مقتنعًا بأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم، وأن الله سبحانه رفع السيد المسيح مكانًا عليًا، وأن الصليب والصور الدينية لا ينبغى أن تقدس بالطريقة نفسها التى يقدس بها الله، وأن الكبائر المسماة فى العرف الكاثوليكى «الخطايا السبع القاتلة» كالقتل والزنى والطمع والكبرياء وغيرها، لا يمكن أن تستحق العقاب بالجحيم الأبدى، لأنها تُرتكب فى حياة الإنسان المحدودة بالزمن، وما كان محدودًا لا يمكن عقابه باللا محدود، وهنا أيضًا يبدو أن بيكو كان متأثرًا بالعقيدة الإسلامية والفكر الإسلامى، فالله فيهما يمكن أن يغفر كل ذنب فيما خلا الشرك، وإضافة لهذا التوجه اللاهوتى فإن ميراندولا يعد قطبًا من أقطاب عصر النهضة الأوروبية ومن أقطاب النزعة الإنسانية «الهيومانزم».

وذلك لأن جوهر فلسفته يقوم على ثلاثة مبادئ هى أولًا الإيمان بكرامة الإنسان وعزته ونبله، وبأن الإنسان قيمة فى ذاته، وبأن للحياة الإنسانية قيمة فى ذاتها، ويجب إثراؤها بكل ما فى الطبيعة والعالم المادى من فكر وعلم وفن وأدب ونشاط، ثم ثانيًا وهو أن الإنسان سيد مصيره فى هذا العالم، وأن إنسانيته مقترنة بقدرته على الاختيار، أما ثالثًا فهو أن الحضارات الوثنية الأولى كانت تنطوى على حكمة عميقة أهدرها العالم المسيحى، ولذلك فكل نهضة يجب أن تقوم على استيعاب التراث الوثنى عند اليونان والرومان وغيرهما من شعوب العالم القديم.

إن ما يمكن أن يكتب عن «بيكوديللا ميراندولا» كثير، خاصة ما ألّفه عما سماه النتائج التسعمائة، وهى التى رفضتها الكنيسة جملة، ونوهت بزندقة ثلاث عشرة منها.
نقلا عن المصرى اليوم