القمص يوحنا نصيف
    للقدّيس أثناسيوس بطريرك الإسكندريّة العشرين تعليق جميل جدًّا على ما جاء في (فيلبي 2: 5-11).

    في هذا الفصل يحثّ القدّيس بولس الرسول أهل فيلبّي أن يتمثّلوا بفِكر ربّنا يسوع المسيح، الذي أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد، ووضع نفسه، وأطاع حتّى الموت؛ موت الصليب.. لذلك رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ..

    وكان الأريوسيّون الذين ينكرون لاهوت المسيح ويحاولون بكلّ الطرق التقليل من قيمته، والقول بأنّه مخلوق، وجاء وقتٌ لم يكُن فيه موجودًا قبل أن يخلقَه الآبُ.. كان هؤلاء الأريوسيّون يحاوِلون التدليل على فكرتهم الجنونيّة تلك بذِكر هذه الآية: "لذلك رفّعه الله" (في2: 9)، ويقولون أنّ يسوع قد نال كرامةً ومجدًا لم يكونا لديه من قَبْل، على سبيل الأُجرة أو المكافأة بسبب طاعته، وأعماله الصالحة.. لذلك فهو متغيّر وليس مساوِيًا للآب في الجوهر.

    ولكنّ القدّيس أثناسيوس ردّ عليهم بحديث طويل، أقتطف منه لحضراتكم في هذا المقال بعض الفقرات:
   + بما أنّ الكلمة وهو صورة الآب (كو1: 15)، وهو غير مائت، قد اتّخذ صورةَ عبدٍ، وكإنسانٍ عانَى الموت بجسدِهِ مِن أجلنا. لكي بذلك يبذل نفسه للآب بالموت مِن أجلنا، لأجل هذا السبب يُقال عنه إنّه كإنسانٍ مُجِّدَ أيضًا نيابةً عَنَّا ومِن أجلنا.

   + لكي كما بموته قد مُتنا جميعًا في المسيح، وعلى نفس المنوال أيضًا، فإنّنا في المسيح نفسه أيضًا قد مُجِّدنا مَجدًا عاليًا، مُقامِين من بين الأموات وصاعدين إلى السموات «حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِقٍ لأجْلِنَا» (عب6: 20)، «لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا». (عب9: 24).

   + فإن كان المسيح قد دَخَل الآن إلى السماء عينِها لأجلِنا، رغم أنّه من قَبلِ هذا الحدث، كان هو دائمًا الربّ وخالق السموات، فتَبعًا لذلك تكون هذه الرِّفعَة الحالية قد كُتِبَت أيضًا من أجلنا نحن.

   + وكما أنّه وهو الذي يُقَدِّس الجميع، يقولُ أيضًا أنّه يُقَدِّس نفسَه (يو17: 19) للآب مِن أجلنا -ليس بالطبع لكي يكون اللوغوس مُقَدَّسًا- بل لكي بتقديس ذاتِه يُقَدِّسنا جميعًا في ذاته. وهكذا بنفس المَعنَى ينبغي أن نفهم ما يُقَال الآن أنّه «تمجَّد». ليس لكي يُمجِّد هو (أي اللوغوس) نفسَهُ -إذ أنّه هو الأعلَى- بل لكي هو ذاته «يصير بِرَّا» مِن أجلنا، أمّا نحن فلكي نتمجّد (نُرَفَّع) فيه، ولندخُل إلى أبواب السماء، التي قد فتحها هو ذاته من أجلِنا.

   + يقول السابِقون «اِرْفَعوا أيّها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيّتها الأبواب الدهريّة، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ» (مز24: 7). وهنا أيضًا لم تَكُن الأبواب مُغَلَّقةً أمامه هو، إذ هو ربُّ وخالق كلّ الأشياء، بل بسببنا كُتِبَ هذا الكلام، نحن الذين أُغلِقَتْ أمامنا أبوابُ الفردوس.

   + لذلك يُقال عنه من الناحية البشريّة، بسبب الجسد الذي كان قد لبسه: «ارفعوا الأبواب»، كما يقال أيضًا: «ليَدخلَ» كما لو كان إنسانًا سيدخل. ولكن من الناحية الإلَهيّة -حيث إنّ «اللوغوس هو الله»- يُقال عنه أيضًا إنّه «الربّ» و«مَلِك المجد».. إذن فهو لم يرتَفِع بذاته كما لو كان في حاجة إلى الرِّفعة، بل نحن الذين ارتفعنا (تَمَجَّدنا).

   + كلمة الله ليس في احتياجٍ إلى شيء، لأنّه كامل؛ بل بالأحرى نحن الذين نلنا منه الارتقاء. لأنّه هو «النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَم» (يو1: 9).

   + إنّ الأريوسيّين يُرَكِّزون بلا جَدوَى على أداة الربط: «لذلك» لأنّ بولس قال «لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ» (في2: 😎. فهو بهذا القول لم يكُن يُعنِي مكافأةً لفضيلةٍ، ولا ارتقاء نتيجة تَقَدُّم داخلي، ولكنّه يقصد السبب في العلوّ والتمجيد والارتفاع الذي صار فينا.

   + فلو لم يكن الربّ قد صار إنسانًا، لَمَا كان في وسعنا أن نُفتَدَى (نَتحَرَّر) من الخطيئة وأن نقوم مِن بين الأموات، بل لبقينا أمواتًا تحت الأرض، ولَمَا كُنّا لنُرفَع (لنُمَجَّد) إلى السماء، بل لرقدنا في الجحيم.

   + إذن، فمِن أجلنا، ولِمَصلَحتِنا، كُتِبَت هذه الكلمات "رَفَّعَهُ اللهُ"، أي «مَجَّدَهُ مَجدًا عاليًا»، «وأعطاه اسما».

[عن المقالة الأولى ضدّ الأريوسيّين – الفقرات: 37-43 للقدّيس أثناسيوس الرسولي - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور صموئيل كامل عبد السيّد والدكتور نصحي عبد الشهيد، ومراجعة الدكتور جوزيف موريس فلتس]
القمص يوحنا نصيف