طارق الشناوى

من الجنوب وتحديدا (النوبة) كان ينبغى أن تنطلق الحكاية، شريط سينمائى للمخرج الشاب كريم الشناوى يحاول أن يجسد الفكرة التى عايشها بكل الأبعاد الموضوعية والشكلية والنفسية مع كاتب السيناريو المجتهد هيثم دبور.

 

كل من يعرف مصر المحروسة، يعلم جيدا أن العمق الحقيقى هو امتزاج الحضارات والأديان وانصهارها فى بوتقة واحدة، تؤكد هيمنة الروح المصرية عميقة الجذور على كل التفاصيل حتى طقوس الأديان، تلمح فيها تفرد الحالة المصرية، نعم نرى أحيانا نشازًا هنا أو هناك إلا أنه لا يصل أبدا للروح.

 

أن تكون مختلفًا فى بيئة لها ملامحها ولونها ونبرتها، مؤكد حالة نعرفها فى عشرات من الأفلام العالمية والمصرية، وآخرها على المستوى المصرى أول أفلام المخرج أبوبكر شوقى (يوم الدين) الذى يعتبر آخر مشاركة- داخل المسابقة الرئيسية- للسينما المصرية فى مهرجان (كان) وذلك قبل 6 سنوات، لم ينل الفيلم جائزة من لجنة التحكيم إلا أنه حظى عقب العرض بتصفيق استثنائى من الجمهور الذى تعاطف مع الحالة، كان البطل يعانى من مرض الجزام ولديه رحلة أيضا للوصول إلى جذوره فى الصعيد (الجوانى)، على الجانب الآخر فيلم (ضى) أيضا لديه خط درامى مواز، عكسى من النوبة للقاهرة، ولا يعنى هذا أبدا أنه يتشابه مع فيلم أبوبكر، ولا هو تنويعة عليه، تظل تلك حالة درامية عامة، من حق كل مبدع أن يقتنصها ويقدم وجهة نظره.

 

المكان والزمان يلعبان دور البطولة عندما ينتقل الأبطال من النوبة إلى القاهرة حيث إن هناك قيدًا زمنيًا 48 ساعة، حتى يتمكن (ضى) للمشاركة فى برنامج للأصوات الجديدة، ويصبح حلم البطل أن يسمعه كاظم الساهر ونانسى عجرم لينال جائزة أفضل صوت شاب.

 

فى الفيلم يتم التركيز أكثر على كاظم وليس نانسى، وهذا طبعا مقبول دراميا، لأن بطل الفيلم يطل بزاوية خاصة جدًا على الموقف.

 

الشخصية الرئيسية، بدر محمد لديه ما يعرف بمرض (البينو) وهو (المهق)، نطلق عليه شعبيا (عدو الشمس) حالة وراثية، يحدث بسبب طفرة جينية، ويظل ملازمًا للإنسان فى مختلف مراحل العمر.

 

الأحداث كخط عام من الممكن أن تلمحها فى عشرات من الأفلام، التى تجعل المتلقى جزءًا حميمًا من الحكاية متوحدًا مع الأبطال، لدينا أسيل عمران التى تؤمن بموهبة (ضى)، وتلعب دور مدرسة الموسيقى، وأمه الفنانة السودانية إسلام مبارك فهو الأقرب إلى قلبها، مؤمنة بموهبته أيضًا، إلا خوفها عليه أكبر من إيمانها بموهبته.

 

نرى فى المدرسة حالة التنمر التى يعانيها من زملائه، باعتدائهم السافر عليه، الإنسان فى طبيعته يشعر عادة بعدم ارتياح يصل أحيانا إلى مرحلة النفور من المختلف، مع النضج ندرك أن الاختلاف هو قانون الحياة.

 

التوصيف السينمائى ينطبق عليه تعريف (سينما الطريق) ويتيح للكاتب دراميًا أن يقدم بين الحين والآخر شخصيات يلتقيها الأبطال الرئيسيون فى الرحلة، وبرغم تلك الحرية أو ما يبدو ظاهريا أنها حرية فضفاضة بلا سقف، إلا أن القيد الذى على الكاتب الالتزام به هو أن كل شخصية تقدمها يجب أن تضيف شيئا عميقا ومؤثرا للحدث الرئيسى.

 

ومن الممكن أن يتجسد ذلك بوضوح فى المشهد الذى أداه أحمد حلمى باقتدار لأنه أيضا أصيب بحروق شوهت وجهه، وصار يضع قناعًا حتى يخفى ملامحه على الجميع، عبر عنها بجملة مكثفة وهو مبتسم (لم يستطيعوا التواصل سريعا مع المطافئ). المخرج قدم تنويعات فى كل شىء، شاهدنا محمد ممدوح الذى أدى دور خطيب مدرسة الموسيقى أسيل عمران الذى يلتقيها فى الكنيسة، وبدون صخب ولا ادعاء، نرى مصر فى الكنيسة كما نراها فى الجامع، حتى عندما تلقى الأم بمدرسة الموسيقى آسيل فى النيل فهى لا تعبر عن موقف دينى، حاول المخرج والكاتب فى أكثر من مشهد نفى ذلك، ظل طوال الأحدث بعدها ينفى أن الأسباب طائفية، كان من الممكن أنها عندما تراها تغرق تلقى بنفسها مسرعة فى النيل ويحيل الأمر إلى مشهد كوميدى وفى نفس الوقت لا يشعرنا بثقل درامى.

 

المفاجأة هى لقاء المطرب الشاب بمحمد منير، وبرغم التناقض اللونى، فإن حضور منير فى المستشفى بالصدفة مع (ضى) أراه ذروة درامية، كما أنه توظيف درامى جيد لمحمد منير، كان الموقف يحتمل أيضا أن يتشاركا فى أغنية جديدة تلقى ظلالا ولا تفصح ولكن مجرد تهمس بروح الفيلم، تقديم أغنية باللغة النوبية لعب دور عميق فى تأكيد فكرة أن الاختلاف الشكلى لا يعنى أبدا الرفض، منير ليس هو أكثر مطرب مصرى يحقق أرقامًا فى شباك التذاكر، إلا أن سر تفرده هو أيضا سر تمرده، أنه الأكثر تعبيرا عن الحالة المصرية، وقبل نحو 20 عاما التقطت بذكاء المخرجة هالة خليل فى فيلم (أحلى الأوقات) هذا الخيط السحرى الذى يملكه منير فى الضمير الجمعى المصرى.

 

السيناريو امتد إلى دخول التليفزيون ليصبح طرفًا حتى يفسح المجال للإعلامية لميس الحديدى لتقدم المطرب الجديد بأداء درامى جيد، فى مشهد يذكرنا بفيلم (حكاية حب) لعبدالحليم حافظ فى نهاية الخمسينيات عندما غنى فى برنامج الإذاعية القديرة آمال فهمى (على الناصية) رائعته (بحلم بيك) وساهم الفيلم فى تحقيق شعبية استثنائية له فى ذلك الحين.

 

الشريط إنتاج مشترك مصرى سعودى من الجانب لمصرى صفى الدين محمود وجابى خورى والسعودى فيصل بالطيور، وهو أكثر منتج قطاع خاص سعودى يحرص على المشاركة فى تقديم إنتاج مشترك مع مصر. وهناك أكثر من فنان سعودى مشارك مثل أسيل عمران التى أدت اللهجة الصعيدى، الأهم من ضبط اللهجة أنها أقنعتنا بحالة الحميمية فى احتضان الموهبة والدفاع عنها حتى وهى تواجه رفض عائلته، أعجبنى تقديم أغنية باللغة النوبية، فهى تتوافق مع عمق الفيلم، الذى يعمق معنى التعايش مع كل الفروق الشكلية بمختلف أنماطها.

 

من العناصر المميزة فى الفيلم مدير التصوير عبدالسلام موسى والإشراف الفنى على حسام على وواضع الموسيقى التصويرية مينا سامى وملابس مونيا فتح الله. الفيلم سوف يمثل السينما المصرية والسعودية فى اليوبيل الماسى (75) عامًا لمهرجان برلين الذى يفتتح 13 فبراير القادم.

 

هل يقبل الجمهور على الفيلم؟

كان هذا هو السؤال الذى بادرنى به المنتجان السعودى فيصل والمصرى جابى؟، وجاءت إجابتى أن المشاهد لم يتعود على السينما المغايرة، ولكن للفيلم مفتاح خاص فى جاذبيته التى من الممكن أن تصنع دائرة جماهيرية تراكمية تتسع مع استمرار العرض السينمائى بين الحين والآخر.. التشابك مع الجمهور والمغامرة أيضا مع الجمهور!!.

نقلا عن المصرى اليوم