مقال كتبته منذ عشرين عامًا:
القمص يوحنا نصيف
في بداية العَقد الأوّل من هذا القرن، كنت أكتب ولعدّة سنوات متتالية بعض المقالات السيّاسيّة، وينشرها لي الصديق العزيز الأستاذ مجدي خليل في جريدة "وطني"، في باب خاصّ يُسَمّى "وطني الدولي"، فيقرأها الجميع في مصر وخارجها.. وقد توقّفت الآن -في هذه المرحلة من عمري- عن الكتابة أو الحديث في السياسة، تارِكًا هذا المجال للمتخصّصين.
بعد الأحداث المتلاحقة التي تَحدُث الآن في سورية، تذكّرت هذا المقال الذي تمّ نشره في أوائل فبراير من عام 2005م، ورأيت أن أعيد نشر الجزء الأكبر منه لمجرّد استعادة الذكريات.
+ + +
رئيسنا إلى الأبد
القس يوحنا نصيف - الإسكندرية
زرت سوريا في يوليو (تموز) عام 1995م، وسعدتُ بما فيها من مزارات سياحيّة ودينيّة في دمشق وضواحيها، وحِمص وحلب واللاذقية.. وأعجبني نظافة دمشق الملحوظة، وشعبها الكريم المُعتزّ بنفسِه، ولَفَتَ نظري رُخص أسعار المواصلات العامّة والمُنتجات التي في معظمها منتجات مَحليّة الصُّنع.. كما لاحظت أيضًا بعض المظاهر السلبية مثل السوق السوداء للعُملة، وحظر دخول الكثير من الكتب والمجلاّت إلى البلاد، وتفشِّي الرشوة بشكل واضح.. وكانت النصيحة الذهبيّة لبعض الزائرين من السوريين أنفسهم: "إرشي تمشي.."..!
وكان من ضمن ما لاحظته، انتشار اللافتات الضخمة التي تحمل صورة الرئيس حافظ الأسد، وابنه المُتوفّى باسل الأسد.. فالصور تصطدم بعينيك في كل مكان؛ في الشوارع والميادين وعلى النواصي، وفي جميع المحال التجارية.. فزجاج الأبواب في المحال مُغَطَّى بصور ضخمة للرئيس وابنه الفارس الراحل باسل، مع بعض العبارات مثل: "كلنا باسل.. يا حافظ الأسد".. وبعض عبارات المواساة الأخرى التي لا أتذكّرها الآن.. وكان الابن "باسل"، وهو رقم (2) في أبناء الرئيس، قد توفِّيَ في حادث سيارة عام 1993م.. ولم يكُن نجم الدكتور "بشّار" الابن رقم (3) قد بزغ في الأفق بعد..
أمّا العبارة التي كانت تتكرَّر كثيرًا، وتُكتَب بأشكالٍ متعدِّدة، وقد كُتِبَت بحجمٍ هائل أعلى جبل "قاسيون"، وهو الجبل المُطِلّ على دمشق، لكي يراها كلّ مَن في دمشق.. فكانت: "رئيسنا إلى الأبد.. يا حافظ الأسد".. وكان في ذلك الحين في السادسة والستّين من عمره تقريبًا..
لم أكن وقتها أفكِّر: مَن الذي يكتب هذه العبارات؟ ولمصلحة مَن؟ وبأموال مَن؟!.. ولكنّني بوجه عام لم أكُن مسرورًا من هذه اللافتات أو العبارات التي أحسستُ برائحة الرياء والمجاملة الفجّة تفوح منها... ولم أكُن أدري أن هذه بعض ثمرات من ثمار الاستبداد.
تُوفّي الرئيس حافظ الأسد -رحمه الله- عام 2000م، ولم يستطِع بالطبع أن يصير رئيسًا إلى الأبد.. وفوجِئنا بأن البرلمان السوري اجتمع وقرّر تغيير الدستور في جلسة استثنائيّة، لينزل بالسِّن القانونيّة لرئيس الجمهوريّة، حتى يتمكّن من ترشيح الابن "بشّار" لرئاسة الجمهوريّة.. وهنا دُهِشت لهذا التصرُّف اندهاشًا بالغًا.. وحاولت أن أجد تفسيرًا لهذا الموقف العجيب، فكان أمامي افتراضان:
- الافتراض الأول: أن عائلة الرئيس حافظ الأسد هي عائلة ممَيّزة جدًا في الذكاء والقدرات الخارقة Supermen وهناك مسافة شاسعة في مستوى الذكاء والكفاءة بينهم وبين بقيّة الشعب السوري.. وبالتالي يتحتّم أن يكون الرئيس من بينهم، لأنه سيستطيع أن يقود الشعب السوري إلى الرفاهية والازدهار بكل سهولة، وذلك للكفاءة الأسطوريّة التي يتمتّع بها.. وهنا كان من الضروري لمصلحة البلاد أن يُقام إجراء استثنائي لتنصيب أحد أبناء الرئيس ليكون مكان أبيه.
- الافتراض الثاني: أن النظام الذي كان يحكم به الرئيس حافظ الأسد تربّى في حضنه الكثيرون من المنتفعين بالسُّلطة.. وهؤلاء يريدون أن يستمرُّوا في مواقعهم، ويظلُّوا منتفعين بسلطاتهم.. فإن جاء رئيس جديد منتَخَب من الشعب بالانتخاب الحُرّ، فبكل تأكيد سوف يختار طاقمًا معاونًا جديدًا يتوسَّم فيه الكفاءة وينسجم معه في العمل.. وفي هذه الحالة سيفقد هؤلاء المنتفعون بالسُّلطة مكانتهم والكثير من مكاسبهم.. ولهذا كان من الضروري لمصلحتهم، وليس لمصلحة البلاد، أن يستمرّ الوضع على ما هو عليه، ويُنَصَّب الابن رئيسًا بعد أبيه..!
أحسستُ أنني أميل بقوَّة للافتراض الثاني، فهو أكثر منطقيّة.. ثم تأكّدتُ تمامًا من صحّته عندما وجدت أنه حتى الآن الطاقم القديم مستمرٌ في مواقعه في وزارات الخارجيّة والدفاع وغيرهما، إذ أنهم أصحاب فضل على الرئيس الشّاب، وبالتأكيد يلزم أن يرُدّ لهم الجميل.. وكل هذا على حساب مصلحة شعب يقترب من الثلاثين مليون نسمة، يذخر بالكفاءات الفكرية والإداريّة والعلمية.. والتي لا تجِد أدنى فُرصة للمساهمة في قيادة البلاد نحو مستقبل زاهر..!
+ + +
ونحن نتذكّر هذا الآن، نصلّي من أجل سلام سوريا وشعبها الغالي بكلّ أطيافه.