أحمد الجمال
يوم ١٧ أبريل ٢٠١٨، كتبت فى هذه المساحة مقالًا بعنوان «سوريا.. قراءة مختلفة»، حاولت أن أقدم خلال سطوره تحليلًا لمواقف إيران وروسيا وتركيا والغرب والصهاينة من سوريا.
ثم فى يوم ٢٤ أبريل ٢٠١٨، نشرت فى هذه المساحة مقالًا آخر بعنوان «قليل من التاريخ يصلح العقل»، وضمّنته تعقيبات على المقال الذى سبقه «سوريا.. قراءة مختلفة»، للصديقين الأستاذ غسان طهبوب الصحفى والإعلامى المثقف، الفلسطينى المرموق، والراحل العزيز الدكتور إبراهيم البحراوى.
وفى تعليق الأستاذ طهبوب أشار إلى نص كلام الرئيس الأمريكى الأسبق دوايت أيزنهاور، فى لقائه مع مسؤولين عسكريين بريطانيين، خلال أبريل ١٩٥٦، قال فيه «إنه قضى وقتًا معتبرًا فى قراءة تاريخ القومية العربية، وتاريخ الحروب الصليبية، ووجد أن أوروبا عانت لألف عام من آخر صعود إسلامى، ونحن لا نستطيع تحمل صعود آخر». ونوه الأستاذ غسان إلى أنه معلوم أن غالبية الغربيين يوحدون بين العرب وبين الإسلام، وخاصة أن غزو أوروبا كان بقيادة عربية أموية.
إننى أستأذن القارئ الكريم فى أن أعيد نشر مقال «سوريا.. قراءة مختلفة»:
«نادرًا ما يلتفت أحد عند الحديث أو الصياح أو البكاء على سوريا إلى ما هو فى اعتقادى جوهر الموضوع.. إذ ينقسمون إلى عدة اتجاهات، اتجاه مع الحكم والرئيس الذى أصبح رمزًا يجسد عند البعض كل معانى الوطنية والقومية والصمود والإصرار، بل تتجسد فيه وحدة سوريا.. ويتم غض الطرف عن تاريخ طويل للبعث السورى ولطريقة وصول ومنهج حافظ الأسد ووريثه إلى السلطة، وأيضًا إذكاء النعرات الطائفية على نحو معلوم لمن أراد أن يعرف، واتجاه على النقيض تمامًا يرى فى الحكم وفى الرئيس وفى البعث وفى الطائفة؛ تجسيدًا للشر والظلم والاستبداد، إلى آخر ما فى قاموس المثالب من مصطلحات، ويتم صرف النظر أيضًا عن طبيعة الحياة السياسية فى سوريا، وطبيعة التركيبة الاجتماعية والثقافية، ودور الجيش فى المجتمع وفى الصراع السياسى والاجتماعى، وأنه يحمد للبعث ولحافظ الأسد وبشار أنهم ظلوا لفترات طويلة محورًا لتماسك سوريا وصمود مواقفها الوطنية وارتباطها بعروبتها، ولو من باب الشعارات، وأن ظروفًا تأتى على الأمم والدول يكون فيها الشخص رمزًا لتماسك الأمة أو الدولة، خاصة أمام ضراوة العدوان وأمام انهيار المؤسسات وحالة الانقسام الأفقى والرأسى إلى آخره.
وهناك اتجاه ثالث يرى فى الطرفين الآفة التى فتكت بسوريا منذ بداية فترات الانقلابات العسكرية، ومنذ حالة احتراف العمل السياسى، وحالة إقحام الدين والمذهب فى الحياة السياسية، وأن الطرفين وجهان لعملة واحدة، هى الحياة السياسية الفاسدة فاقدة الرشد والأهلية، وأن البديل هو ما سيتخلق فى رحم الأحداث والتطورات لينفى الطرفين معًا.
وفى اعتقادى أن استهداف سوريا والتركيز الغربى والأمريكى والصهيونى على ضربها يتجاوز وجود البعث وبشار ونقيضهما من المعارضة بكل فصائلها وتوجهاتها إلى ما تعنيه سوريا فى المعادلة بأبعادها الإقليمية والدولية، وهى معادلة رسمها ويتحكم فيها الغرب الأوروبى والأمريكى والصهاينة، وفيها مساحات يغض الطرف عنها الإيرانيون والروس، رغم أنهم- فى ظاهر الأمر وكثير من جوهره- فى جانب مغاير للجانب الغربى والصهيونى.
سوريا نجحت منذ زمن طويل فى تعريب تعليمها تعريبًا كاملًا، بما فى ذلك علوم الطب والهندسة والتكنولوجيا وما على غرارها، وصار فيها بيئة معرفية متكاملة مفرداتها عربية وغير متخلفة عن ملاحقة التقدم العالمى فى هذا المضمار، وسوريا راسخ فيها دور المجامع العلمية واللغوية التى استطاعت أن تبذل الجهد العلمى الرصين لضخ مفردات ومضامين العلم المعرب فى شرايين المدارس والجامعات والتعليم ما فوق الجامعى.
سوريا أيضًا فيها حراك ثقافى هائل، أفسح المجال للإبداع المتجدد فى الشعر والمسرح والموسيقى والغناء وفى التصوف والإنشاد، وأيضًا فى العقيدة والتفسير والفلسفة، ولم يحرم المخالفين حتى الملاحدة من الوجود والتعبير! ولعلى هنا أشير إلى أننى ما زلت أقرأ فى كتابات عالم تخصص فى الهندسة، واهتم بدراسات القرآن الكريم والعقيدة، هو محمد شحرور، الذى يفتح بابًا خطيرًا وعظيمًا فى فهم متجدد عميق للدين!
سوريا كذلك، وقبل البعث والأسد، كانت وظلت دينامو الحراك السياسى العربى وذروة ترسخ المضمون القومى العربى فى الانتماء والهوية، وبوابة الأمن القومى لما يليها من أرض عربية فى الجزيرة العربية ووادى النيل وبامتداد الساحل الشمالى لإفريقيا!
وسوريا أيضًا من أهم البوتقات التى انصهرت فيها حضارات حوض المتوسط مع حضارات وسط آسيا وغربها، ومنها انبثقت إشعاعات حضارية ثقافية غطت الأناضول وما فوقه فى شرق ووسط أوروبا، واتصلت بمصر وشمال إفريقيا وامتدت للعراق وما وراء النهر!
ثم إن سوريا- لمن على عقله صدأ، وعلى بصره غمامة وانطمست بصيرته- هى أخطر وأهم بوابة أمن لمصر تحديدًا!
وعلى ذلك فإنه إذا كان المطلوب فى معادلة الغرب الأوروبى والأمريكى والصهاينة، وعلى أساس من صراع الحضارات والثقافات.. هدم الشرق الأوسط وإعادة بنائه بما يجعل من دوله التاريخية هوامش على المركز الإسرائيلى، بما فى ذلك ضرب أى أساس حضارى وثقافى ومعرفى يسمح بعودة وانتعاش المنظومة القومية العربية سواء ببعدها السياسى، أو بأبعادها الثقافية؛ فإن ضرب سوريا ودفعها قرونًا إلى الخلف أمر حتمى ومطلوب.
ثم إن الروس وأيضًا الإيرانيين ليسوا تمامًا مع عودة وانتعاش وقوة تلك المنظومة العربية التى تعنى نهوضًا حضاريًا وثقافيًا، ومن ثم سياسيًا واقتصاديًا، والأسباب معروفة ندركها بموقف الروس من الوحدة فى ١٩٥٨، ومن موقف إيران أيام الشاه، وأيضًا بعده، حيث لا ينكر أى مراقب أن ثمة صراعًا دفينًا ما زال فى نفوس ذوى الأصول الحضارية الفارسية تجاه الحضارة العربية.. وللحديث صلة».
نقلا عن المصرى اليوم