الراهب القمص يسطس الأورشليمى
ولد ثيوذوسيوس في وسية كابادوكيا في سنة 414م، وفي سنة 450م قدم إلى الاراضى المقدسة فنزل في دير يقع قرب القلعة في القدس مكان دير الأرمن الحالي مع مواطنه لونجينوس وفي سنة 455م، أنتقل إلى الدير الذي بناه هيكالياس قرب بئر قاديسمو الواقع في منتصف الطريق بين القدس وبيت لحم، ولما أنتخب رئيساً لهذا الدير هرب إلى تثوبا، ثم ما لبث أن سكن مغارة إلى الجهة الشرقية من بيت ساحور، يتناقل الناس عنها تقليداً قديماً نقلاً عن أجدادهم أنه في هذه المغارة، قد أمضى المجوس ليلتهم بعد زيارتهم للطفل يسوع ورجوعهم خلسة إلى بلادهم هاربين من الملك هيرودس الكبير، كما أوحي لهم بذلك في حلم الملاك جبرائيل بناء ديره.
وفي كل عام كان يشاركه في الإقامة والتنسك في هذه المغارة أعداد جديدة من النساك القادمين إلى الاراضى المقدسة، مما إضطره الأمر أن يبني ديراَ في المكان المحيط بمغارته، فأصبح هذا الدير مركز الرهبنة في القدس ومنطقتها.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى بلغ عدد رهبانه أكثر من أربعمائة ناسك، فإضطر أن يقسمهم إلى أربع فئات حسب لغتهم وطقوس عبادتهم: فريق القادمين من اليونان، والثانى فريق القادمين من العرب ويوغسلافيا والبلاد المجاورة لها، والفريق الثالث للقادمين من ارمينيا في روسيا، وخصص المكان الرابع للنساك الذين يعانون مرضا عقلياً أو جسمياً، ولكل فريق كنيسة صغيرة يقيمون صلواتهم فيها، ثم كنيسة رئيسية يجتمع فيها الجميع في كل يوم أحد لحضور القداس والصلوات التي يقيمها رئيس الدير ثيوذوسيوس.
وفي سنة 492م أقامة البطريرك سالوستيوس رئيسا لجميع الأديرة والصوامع في المنطقة، وتوفي هذا القديس في الحادي عشر من شهر كانون الثانى / يناير سنة 529 م، بعد أن تجاوز عمره (105) سنوات، شاهد خلالها وفاة 693 ناسكاً من نزلاء ديره هذا.
في غزوة الفرس للاراضى المقدسة سنة 614م، كان ديره من جملة الأديرة والكنائس التي نهبها الغزاة، ثم أحرقوها وقتلوا من وجدوه فيها من الرهبان والمتنسكين، وأخذوا البطريرك زكريا وأعيان البلاد أسرى إلى فارس، وتولى الأمور الدينية في البلاد مودستوس الذي هو بعد البطريرك أصبح رئيس ثيوذوسيوس والذي قام بتعمير الكنائس والأديرة حسب ظروفه المالية، وبعد وفاة مودستوس نصب بعده بطريركا الأسقف سفرونيوس، الذي وهبه أخيه ماماس مبلغا كبيرا من المال، خصص قسم كبير منه لإعادة بناء وتعمير كنيسة دير ثيوذوسيوس.
بعد وفاة القديس ثيوذوسيوس خلفه أحد رهبان ديره، وجاء عهد عمر بن الخطاب في القدس فعاش الجميع في أمان حوالي قرنين من الزمان، وفي سنوات 808م – 813 م تعرض هذا الدير للنهب والتدمير من قبل بعض البدو النازلين في المنطقة، الذين قتلوا نزلاء الدير من الرهبان، مما إضطر من بقي حيا منهم أن يهجر هذا الدير.
عودة الحياة للدير :
أطلق العامة في الأراضي المقدسة على هذا الدير اسم " دير ابن عبيد " نسبة إلى قوم من أصل يونانى كانوا يسكنون جزر ايجة أيام الإمبراطور البيزنطي جوستنيان كانوا قد ثاروا عليه سنة 530م فحكم على زعمائهم بالموت، وصادف أنه في هذه الفترة قد جاء إلى القسطنطينية القديس (سابا) صاحب دير مار سابا المعروف رسولا لبطريرك القدس ليروي للامبراطور ما لحق بالمسيحيين وكنائسهم في الاراضى المقدسة، فطلب من الإمبراطور أن يبقى على حياة زعمائهم، وأن يقبل بأن يرافقوه إلى ديره، فأجاب الإمبراطور طلبه، وحضروا معه إلى هذه الديار، واستقروا إلى غرب دير مار سابا في خدمة الدير، ومع الأيام أختلطوا وتزاوجوا مع أهل البلاد ثم في زمن العثمانيين أعتنقوا الديانة الاسلامية.
أما عن مكان الدير فأنه من بيت لحم إلى بيت ساحور ثم شرقا إلى حقل الرعاة المعروف باسم سهل الرعوات، ومنها على الطريق الرومانى القديم الذي كان يربط بين بيت لحم ونهر الأردن، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات من بيت ساحور نجد ديرا جليلا يحيط به سور حجري على أرتفاع بضعة أمتار، يعرف منذ القدم باسم "برية يوحنا المعمدان".
إعيد بناء هذا الدير في زمن الصليبين وعادت إليه حياة النساك، وفي سنة 1173م جاءت إلى الاراضى المقدسة راهبة من روسيا ابنة دوق كبير من مقاطعة كييف وعاشت متنسكة، ولما توفيت هذه الراهبة دفنت في قبو دير القديس ثيوذسيوس، وقبل مائة عام نقلت رفاتها إلى روسيا، ثم مرت أوقات عصيبة فقد فيها الأمن مما إضطر الرهبان إلى النزوح إلى دير البطريرك في القدس سنوات طويلة، وفي القرن الماضي بدأت الحياة تعود لهذا الدير، فقد ذكره غرورين في سنة 1863م: أن هذا المكان الذي يعرف عند الناس باسم دير ابن عبيد نسبة إلى قبيلة بدوية تسكن بجواره.
وفي سنة 1877م ذكره كونرادشيك فأعطى وصفا شاملا لموقع هذا الدير، ثم في سنة 1897م قامت بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس بإزالة الأنقاض في موقع هذا الدير، ثم حولت الكهف الذى تحته يحوي قبر القديس ثيوذوسيوس إلي كنيسة.
في سنة 1914م قامت البطريركية الأرثوذكسية في القدس بتعمير خرابات هذا الدير (وبعضها يعود إلى العهد البيزنطي)، وبنيت في المكان الكنيسة الحالية، وبسبب الحرب الكونية الأولى لم يتم بناء هذه الكنيسة حتى سنة 1952م حيث دشنت، ويقع تحت وسط الكنيسة المغارة التي دفن فيها مؤسس هذا الدير وجماجم الرهبان الذين قتلوا في الحوادث التي سبق ذكرها.
حول الدير يوجد بقايا مصطبات من الموزاييك ومعها بعض القطع من الأعمدة وتيجانها، وجميعها مكسورة، بالإضافة لمعالم كثيرة لا تزال مدفونة في الأرض وليس من ينقب عنها.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، وفي شهر كانون أول / ديسمبر سنة 1917م وصل الجيش البريطاني الزاحف من مصر إلى الخليل ثم إلى بيت لحم فدخلها في صباح 8 كانون أول سنة 1917م، فهربت فلول الجيش التركي من بيت لحم إلى بيت ساحور في طريقها إلى أريحا، وقد عسكر الجيش التركي في دير ابن عبيد وباشر باطلاق قذائف مدافعة من حول الدير إلى مواقع الجيش البريطاني في ارطاس وبرك سليمان والدهيشة، فردت عليهم مدفعية الجيش البريطاني بالمثل حتى إضطر الجنود الاتراك إلى الإنسحاب حتى نهر الأردن.
تعمير الدير :
بعد سنة 1950م قامت بطريركية الروم الأرثوذكسية في القدس ببناء كنيسة جميلة في وسط الدير داخل السور الخارجي وكرست سنة 1954م، أما في المنطقة المحيطة خارج السور فقد كانت عدة صوامع للنساك منتشرة فيها وكثير منها بقي مسكونا حتى سنة 1950م، وكلما توفي ناسك لم يقم أحد مكانه خارج الدير، وهذه المنطقة حتى البحر الميت شرقا تعرف منذ القدم باسم "برية يوحنا المعمدان" الذي كان يقيم على ضفاف نهر الأردن في المكان الواقع شرقي مدينة أريحا والذي يعرف باسم " المغطس"، وفي السابع من شهر كانون الثانى من كل عام يجري إحتفال ديني في هذا الموقع وهو اليوم الذي يصادف "عيد الغطاس" لدى الكنيسة الكاثوليكيه، أن المنطقة الشاسعة الواقعة من شرقي بيت لحم حتى البحر الميت كانت عامرة ومسكونة بالرهبان والنساك، منذ القرن الرابع للميلاد حتى أواخر القرن الماضي، وفيها الكثير من الأثار وبقايا العمران ولا تجد من يهتم بالتنقيب عنها.
على بعد بضعة كيلو مترات إلى الشرق من هذا الدير يقع "دير مار سابا" الشهير ولا يزال عامرا بالنساك والمتعبدين حتى يومنا هذا، ويقصده الكثير من السياح والحجاج لزيارة معالمه الشهيرة والفريدة من نوعها وموقعها، وكان الناس والزوار يذهبون إلى دير مار سابا على ظهور الخيل والدواب وبعضهم مشيا على الأقدام، وقبل بضع سنوات عبدت طريق للسيارات تصل الدير بمدينة القدس وأخرى تصله إلى دير ابن عبيد وبيت ساحور حتى بيت لحم.