قصة قصيرة
أحمد الخميسي
شعبنا يحب الأنس والدردشة في كل شيء . هذه حقيقة. وإذا أنت سألت أي انسان في اي شارع عن أي عنوان، فسوف يجيبك بالتفصيل مطولا، ويوضح بإشارات من يديه، ويؤكد بحاجبيه، وقد ينهي حديثه بعد ساعة من الشرح بأن يقول لك : " لكن الأحسن انك تسأل برضه ، لأني مش من هنا" ! وسر ذلك أن شعبنا مغرم بالأنس والكلام وخد وهات والدردشة الحلوة التي يظهر فيها مودته وفنون كلامه. وقد حدث منذ يومين أن كنت في ميكروباص على الطريق الدائري، وهو طريق مرعب بالنسبة لي بسبب السرعة، وكان السائق كالعادة يقود باستعجال طائش، وتوترت أعصابي عندما لاحظت أن الراكب في المقعد الأمامي بجوار السائق مستغرق في حكاية طويلة يسردها على السائق الذي كان ينصت إليه باهتمام ويعلق على ما يسمع من حين لآخر بجملة أو كلمة. قلت لنفسي:" سيقتلنا في حادثة هذا السواق المغرم بالحكايات".

رجوت بعلو صوتي الأخ المتكلم لا فض فوه ألا يشغل السواق بحديثه الشيق وقلت له : " الطريق وحش والرجل يسوق بسرعة". هنا التفت السواق الي برأسه ووجهه وهو قابض على الدركسيون بيد واحدة وقال:" ما تخافش يا باشا.

ما يكونش عندك فكر"! فانفجرت امرأة بلدي لذيذة في حوالي الثلاثين كانت تجلس على الكنبة خلف السائق وصاحت فيه: " يعني إيه الكلام ده؟ الطريق خطر وأنت لازم تبص قدامك". من جديد أدار السائق رأسه إلى المرأة المزة وقال بصوت حنون:" ما تخافيش يا ست الكل، محسوبك إبراهيم سويق من زمان" فحدجته المرأة بنظرة قوية وقالت له:" والنبي إيه؟ ما يقع إلا الشاطر يا أخويا، وبالمناسبة أنت بتفكرني بواحد من طنطا كنت أعرفه بيسوق زيك". قال لها السائق ووجهه بالكامل ناحيتنا وقد ترك النظر إلى الطريق: " اسمه حسن؟ ".

قالت:  " مش فاكرة، بس هو جدع أسمراني يشبهك شوية. بشنب". تطلعت إلى الطريق والسيارة تقطعه بسرعة وقلت لنفسي:" إذا لم يكن من الموت بد، فمن العار أن تموت في ميكروباص". واصل السائق مغازلة المرأة : " يبقي أنت بقى من طنطا بقى؟". صحت فيه : " بص قدامك لو سمحت. بص على الطريق". قال ضاحكا:" ما تقلقش حضرتك "، بينما كانت المرأة تجيبه بصوت رنان :" آه من طنطا".

صاح راكب آخر جلس خلفي:" شيء لله يا سيد يا بدوي". التفتت إليه المرأة ضاحكة : " أنت زرت طنطا قبل كده ؟". زعق فلاح من آخر العربة: " معقول حد ما زارش السيد البدوي؟". تنحنح شاب صغير ودخل النقاش:" ويا ترى الأجرة بكم من مصر لطنطا؟". لم يعد السواق ينظر أمامه نهائيا بعد انغماسه في الكلام الدائر وراح يرد على أسئلة الجميع وعيناه تغازلان المرأة إلى ان قالت له:" يا أخويا أنت باين عليك جن"، وأطلقت ضحكة عالية وهي تضيف:" بتسوق من غير ما تبص قدامك" فضحك سعيدا وقال لها: "عسل يا ناس والله عسل".

كدت ألطم وجهي وأنا أقول لنفسي: " كنت عاوز أسكت واحد أصبحوا عشرة" ! صرخت فيه :" يا جدع خلي عينك على السكة" ضحك مجددا يقول:" الأعمار بيد الله" والتفت إلى المرأة يحاورها:"ولا إيه يا ست الكل؟". لوحت بكفها مبتسمة:" والنبي أنت رجل شقي".

لم أجد حلا سوى أن أطلب منه التوقف لأهبط من السيارة. نزلت ووقفت في الشارع أنفخ في انتظار مرور تاكسي، لكني بعد لحظات وجدتني ابتسم وانا أقول لنفسي:" طيب وماله لو الناس بتحب الكلام؟ والحكايات؟ هو فيه شعب حلو كده؟", وما إن لاح ميكروباص قادما على الطريق حتى لوحت له بيدي فتوقف أمامي وصعدت، وجلست مستريحا ورحت أتابع باهتمام حديثا ساخنا كان قد بدأ قبل صعودي فتدخلت  قائلا: "  الطماطم بقيت بسعر الموز ؟ معقول الكلام ده " ! وردت  علي امرأة نصف نائمة : " باين عليك مش عارف حاجة خالص. انت منين ياحاج ؟".

قلت : " من الجيزة " فسألني رجل بجلباب: " تعرف محل عوض بتاع الكشري؟ ..دول ولاد عمي". وأغرق في الضحك وهو يردد : " وكتاب الله بس ما حدش بيصدق"!  
           ***
نقلا عن جريدة الجمهورية