الأب جون جبرائيل
في قلب الصحراء المصريّة، تربض السكينة ويتسلّل الصمت بين الرمال ويبرعم بين الصخور متحدّيًا قساوتها. هنا عاش رجلٌ حمل معنى اسمه بالحقّ: إبيفانيوس "التجلّي الإلهي". كان وجهه يعكس التجلّي الإلهيّ بلطفٍ لا يُحتمل، بوداعة تقضّ مضاجع أصحاب السرائر المتغطرسة. كان وجهه شعاع نورٍ لتجلٍّ إلهيّ يبزغ في ظلمات الصحراء، يحمل في ذاته بساطة الراهب وقوّة العالم، وحكمة العلماء. أغوته المعرفة فانغوى، وتبعها إلى طريق العلم. غازلتْه القداسةُ متجسّدة في المسيح، فهامَ به حيث قاده إلى أحد طرقها، الدير. تعلّم اليونانيّة، القبطيّة، الإنجليزيّة، وغيرها. لم يتعلّمها للرفعة أو التفاخر، بل ليعيد إحياء الكنوز القديمة: المخطوطات والنصوص المنسيّة، والحِكم التي دفنتها تراكم عليها غبار الأيام. حقّق المخطوطات كمن ينقّب عن جواهر. كتب الكتب كمن يغرس شجرة تظلل الأجيال القادمة أو هو كم يحفر بئرًا يروي العطشى القادمين.

"المعرفة من دون حبٍّ لا تنير، والحبّ من دون معرفة سرابٌ" – كان هذا مبدأه الذي سار عليه. عاشَ أسقفًا في ردائه الرهباني البسيط، من دون ألقاب أو ملابس تميّزه عن إخوته الرهبان. كانت نظراته وكلماته انعكاسًا متجليًا لمَن يريد تأمّل وجه الله في دعة لا تهدد الخلائق. عكس وجهه وكلماته صمت البرية الساكن، وهدير الروح المجدّد، وخدمة المعرفة والعلم، بعيدًا عن أطماع العالم وأنانية البشر. لكنه عاش في زمنٍ لم تُعجب فيه الفضيلة بعض القلوب السوداء. ففي ليلةٍ مظلمة، وَسوَسَت المعصيةُ في سويداء قلوب الحاقدين فجمّلت لهم القتلَ والخيانة والعنف. انقادوا خلفها غير متبينين. قتلوه في لحظة غدر، ظنّوا أنّ النور يُطفأ بالخنجر. والشمسَ يحجبها الدمُ!

ولكن هيهات!

هوى الجسد، لكنّ الروح بقيتّ محلِّة فوق البرّية، تهمس لكل راهب صادق ولكل باحث عن الحق:
"الحياة ليست في طولها، بل فيما قامت به من تنوير. العُمر لا تحسبه السنون، بل عددَ الأرواح التي استطاعت تحريرها من براثن الجهل والخطيئة والعبوديّة.

في كل صفحة كتبَها، وفي كل مخطوطة حقّقها، وفي كلّ طالب علم وقداسة وجد فيه قدوةً، يبرق اسمُ إبيفانيوس كوكبًا منيرًا سماء الرهبنة.

مات إبيفانيوس، لكنّ موته هو موت الحنطة التي ما أن تموتَ إلّا وتثمر.

صمتَ لسانه، لكنّ كلماتِه تشقّ السطور فتلج قلوب القارئين وعقولهم.

انطفأ جسده، لكن نوره يتوهّج.

في تخييم الصمت هذا نعرف أنّ النور الحقيقي لا يُقتل... بل يتجلّى في قلوب مَن يحملونه.