القمص يوحنا نصيف
    نحن نصلّي في القدّاس الإلهي قائلين:
    "وفي آخِر الأيّام، ظهرتَ لنا نحن الجالسين في الظُّلمة وظلال الموت. بابنك الوحيد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، هذا الذي من الروح القدس، ومن العذراء القدّيسة مريم، تجسّد وتأنّس.."

    فقد كان التجسُّد الإلهي نوعًا من الافتقاد الإلهي لنا نحن البشر الذين كُنّا مُقَيّدين في ظُلمة العبوديّة والموت والفساد، فأتى لكي يحرّرنا ويُرَقِّينا ويملأ حياتنا بسلام وفرح ليسا من هذا العالم!

    افتقاد الله لنا يختلف كثيرًا عن افتقاد البشر لبعضهم.. فافتقاد الله في أساسه هو افتقاد حُب ورعاية، ولا يوجَد به أي شُبهة مصلحة أو حتّى مُجاملة كالبشر، بل هو تعبير عن اهتمام أبوي بالإنسان العاجِز أن يعالج أموره بنفسه، فيأتي الله لكي يشاركه مشاعره، بل يشاركه آلامه، ثم يمنحه عطاءً مُذهِلاً، يغيِّر به حياته بالكامل.. إذ أنّ الله هو صاحب القدرة على التغيير، وهو بوجه عام يفتقدنا لأنّه يودّ أن يغيِّر حياتنا ويرتقي بها.. كما قال: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10:10).

    في هذا المقال الصغير، سنتحدّث عن خمسة أنواع من الافتقاد الإلهي:
   1- إظهار الحُب والمراحِم:

    كما نرى في افتقاد الله لشعبه في العهد القديم عندما كان يعيش في مَذَلّة العبوديّة بمصر.. "إنّي قد افتقدتكم، وما صُنِعَ بكم في مصر" (خر3: 16).. "ولما سمعوا أنّ الرب افتقد بني إسرائيل، وأنّه نظر إلى مذلّتهم، خرُّوا وسجدوا" (خر4: 31).. وأيضًا نرى في سِفر راعوث أنّ الله يفتقد شعبه بعد المجاعة.. "الرب قد افتقد شعبه ليعطيهم خبزًا" (را1: 6)..

    ثم نرى أعظم افتقاد مملوء بالحُبّ والمراحم، للبشريّة كلّها، بتجسُّد الابن الوحيد من السيّدة العذراء من أجل خلاص جنس الإنسان، وهذا الافتقاد العظيم عبّر عنه زكريّا الكاهن في تسبحته الشهيرة فقال: "مبارك الرب إله اسرائيل، لأنّه افتقد وصنع فداءً لشعبه.. بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشرِق من العلاء، ليضيء على الجالسين في الظُلمة وظلال الموت، لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام.." (لو1).

   2- استجابة صلاة وتسديد احتياج:

    كما نرى في افتقاد الله لإبراهيم وسارة بالمولود إسحق الذي كانا ينتظرانه.. "وافتقد الرب سارة كما قال..." (تك21: 1). وأيضًا افتقاد حَنّه عندما حبلت بصموئيل النبي، ثم بأبناء آخرين بعد أن قدّمت صموئيل ليخدم الله.. "ولمّا افتقد الرب حَنَّه حبلت وولدَت ثلاثة بنين وبنتين" (1صم2: 21).

   3- سؤال واهتمام وإنقاذ:
    هذا ما يفعله الله دائمًا مع أولاده، كراعِ صالح يرعى قطيعه (إش40: 11، يو10: 11).. "هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها" (حز34: 11).. "أفتقد غنمي وأخلِّصها من جميع الأماكِن التي تشتَّتَت إليها" (حز34: 12).

   4- عقوبات أو تأديب:
    الله هو أيضًا القاضي العادل، وفي افتقاده هو يُحاسِب على الخطايا التي لم نَتُبْ عنها.. كما أكّد مرارًا: "في يوم افتقادي، أفتقد فيهم خطيّتهم" (خر32: 34).. "إنّي قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل.." (1صم15: 2).. "أفتقد بعَصًا معصيتهم، وبضرباتٍ اثمهم" (مز89: 32).

   5- زيارات النعمة:
    هذه هي أروع أنواع الافتقاد الإلهي وأكثرها تأثيرًا وإنعاشًا للنفس.. وهي التي يفتقدنا بها الله من آن لآخَر أثناء الصلاة أو قراءة الكلمة الإلهيّة أو أثناء القدّاس أو التسبحة أو الترنيم أو سَمَاع عِظة..

    في هذه الزيارات تختلط المشاعر مع المعاني الروحيّة الجميلة فيحسّ القلب بأنّ حبّ المسيح يتلامس معه، بل ويحاصره من كلّ ناحية، ويُشعِله بمشاعر فرح لا يمكن وصفها.. وتتميّز هذه الزيارات بانسِياب دموع غزيرة يصعب ضبطها.. وتكون دائمًا فُرصة ذهبيّة للصلاة العميقة المنسحِقة المملوءة بإحساس التوبة والبهجة والسلام!

    أصلّي أن تكون كلمات هذا المقال افتقادًا إلهيًّا لمن يقرأه.
    دمتم في سلام المسيح،،
القمص يوحنا نصيف