٨ كيهك المبارك
القمص أثناسيوس فهمي جورج
الروح طلب ساويرس كما طلب قديمًا بولس وبرنابا للتبشير بالإنجيل نورًا للمسكونة ومِلحًا لا يفسد ، فانتُخِب ساويرس بطريركًا للكرسي الأنطاكي الرسولي في مجمع صور سنه ٥١٢ م حيث اقتبل رتبة البطريركية السامية، ليكون خليفة للقديس بطرس الرسول ، عندها حدث عجبًا في رسامته ، إذ كانت رائحة الطيب تفوح في كل مكان بحضور السمائيين لصلاة التكريس والرسامة ، واستعاد هذا الكرسي التَّليدُ مكانته ، بدحض آراء نسطور وأوطخيا وطومس لاون الروماني .

كتب الأنبا ساويرس فور رسامته عهدًا لرؤساء الأديرة أكد فيه الأمانة الأرثوذكسية المستقيمة وقانون إيمان المجامع المسكونية ( نيقية والقسطنطنية وأفسس ) ، مع حَرمِهِ للقائلين بالطبيعتين بعد الإتحاد ... كذلك كتب الأشعار ( المعانيث) والتراتيل المتضمنة للحقائق الإيمانية والمزامير والتفاسير .

اشتُهر الأنبا ساويرس بموهبة إخراج الشياطين والأرواح الشريرة ، كذلك تميز بافتقاده للبلاد في زيارات رسولية تقليدية قانونية ضرورية ، يبشر ويعظ ويصلي ويطهر من بَرَص الهرطقات ؛ عَقَدَ مجمعَي أنطاكية" وصور سنة ٥١٣-٥١٤م بمؤازرة مار فليكسنيوس المنبجي.. كذلك عزز الأخُوَّة والشركة ما بين الكرسيين الأنطاكي والسكندري ، وحَرَم الأساقفة المنغمسين في حمأة البدعة النسطورية ، معتبرًا أنهم ذئاب ومشحونين بالمخالفة للأسفار المقدسة والقوانين الكنسية . اشتُهر بعظاته على مدى سنوات بطريركيته ، وبمديح الآباء أغناطيوس وأثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس وأنطونيوس الكبير في تذكارات أعيادهم ، وقد اقتدىَ بهم وأخذ عنهم المعرفة والغَيْرة الرسولية والعيشة النسكية ، وتمنَى أن يموت شهيدًا كالذين سبقوه ، وكان شغوفًا بالقديسين والشهداء ؛ حريصًا على تذكاراتهم ، فمهما كانت انشغالاته إلا أنه واظب على إلقاء الخطب في المناسبات الطقسية والتعييد للآباء القديسين ، معتبرًا أنّ التأمل في حياتهم يُنزِل علينا إشعاعاتٍ نورانيةً تجعل سيرتهم كعسلٍ حُلو في أفواهنا ، وكأقراص العسل في نفوسنا .

تُسُمِّي أنبا ساويرس بفم الذهب ، وسماه يعقوب السروجي بالطوباوي وقويم الإيمان المتسلح بالحق ، ووصفه بأنه غير مُغْرق بحب الرئاسة ، وغير متشبث بشهوة السلطة .. لأنه وجد أن الحياة المسيحية تسلُّقًا لجبل الفلسفة الإلهية ، وبلوغها يشبه قمة الجبل ؛ لأن ناموسنا لا نقبله في ألواح حجرية بل ناموس الروح وألواح القلوب ، لنلهج به كل حين ونطبقه بالعمل ، وقد صرنا شريعة لمن يروننا ، في شريعة السيرة التي تقود للحياة العتيدة ، والتي نبدأها ونعيشها منذ الآن ، متشبهين بالأجناد العقلية في التسبيح والسجود والهذيذ بالأسفار القدسية التي منها نجني ثمار الفردوس ونجمع الأزهار ... ففيما نحن هنا على الأرض بالجسد ، نسكن عقليًا في السماء ، أغنياء بالفضيلة ، نضبط الغضب والشر والشهوة ونرفض حِياكة المؤمرات والوشايات والفتن وعبادة الفضة ، ونتحلىَ بالكلام الموزون ؛ لنعيش حياتنا الحاضرة والعتيدة في آنٍ واحد .

كذلك رعىَ رعيَّته الناطقة بالمعرفة العقلية والروحية والرعوية بكل ما فيها من معانٍ ... وقادها إلى المرعىَ الصالح، يوردها إلى مياة الراحة الصافية ، وهو لم يكرز لهم بيسوع آخر ولم ينادِ ببشارة أخرى ، ولم يضع أساسًا غير الموضوع ، لكنه بنىَ كمهندس وبنَّاء حكيم ... وشرح الاعتقاد بتجسد الكلمة من العذراء القديسة مريم ومن الروح القدس ، اتخذ ناسوتًا مساويًا لنا في الجوهر ، بنفس عاقلة وبدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير ، فهو واحد من طبيعتين ؛ مسيح واحد ورب واحد وطبيعة متجسدة .وقد كتب اعتراف الإيمان على أبواب الأديرة مع حرم للمجمع الخلقيدوني .

كان أنبا ساويرس ينصت أولاً للهمسات الإلهية كي يقتني خبرة الروح لا ليُرضي الناس بخدمة العين ، بل لينبِّه وينذر ويكرز ، معتبرًا أن واجبات الإكليروس ورسالتهم ، بأن يُوكِل إليهم أن يكونوا رعاةً من أجل العمل والسهر والتفتيش كل حين ، كقدوة وكمثل وكرامة وسيرة معاشة أمثلة للرعية باستقامه الحياة ... لأن الكاهن كرقيب للرعية هو أول من يراقب حياته ويلاحظها كعلامة للحياة المستقيمة ، كذلك السهام تصوَّب للرعاة من بعض الرُماة الذين يصوبون سهامهم ويعتبرونهم مرمىً ، فينصِبون قوسهم ويثبتوه نحوهم كهدف وعلامة يرسلون عليها السهام . فالشعب ناظر نحو الكاهن كما نحو هدف أو علامة ( سلوكه ، أعماله، سيرته) ، لذلك الكلمات التي ترسم وجه الكاهن هي كونه رقيبًا ينظر ويُشرف ويتطلع ويرصد قدوم العدو ، ثم يفتقد ويفتش ويبحث وينقِّب ويلاحظ ويمتحن ويفحص ويُبحِر كالغاطس إلى الأعماق ..

( كله عين ) يبقىَ واقفًا لا يجلس ولا ينام كراعٍ ماهر صالح ، لا يميل يُمْنةً ولا يُسْرةً ، يسير في مقدمة القطيع كراية وعلامة وحامل للعلم ، يراه القطيع من بعد ليوجِّه مسيرة الرعية ( كعلامة مميزة) ، وصوت صارخ ينفخ بالبوق ولا يسكت ... وهو في كل دورة ( سَنَة ليتورچيه) يأتي إلى نفس الموضوعات حسب القطمارس ، غير حاسب أنه تكرار ؛ وأنّ التعليم مزمع أن يكون الشيء عينَه ، لكنه اعتبر ذلك بإرشاد وهدير ودَنين لا يتوقف عن قول الشيء عينه مراتٍ ومراتٍ من أجل التكميل .

وعندما أتى الأنبا ساويرس إلى مصر سنه ٥١٨م ، عاش بها عشرين عامًا بعيدًا عن كرسيه بالجسد ؛ لكنه لم يكن بعيدًا عنه روحيًا ، وكان يضع على رأسه غطاء الفلسفة ( القلنسوة) ، وقد نظم أحد فلاسفة السريان أنشودة تقول ( يا مصر يا مصر قومي رحِّبي بساويرس الآتي إليكِ ؛ وافتحي له ابوابَكِ ؛ وزيني شوارعَكِ ليدخل إليك ويطرد منك كل تعليم نسطوري وقح ) ، لكنه بشدة اتضاعه كان يجُول متنكرًا من مكان إلى مكان ومن دير إلى دير ، وقد أجرى الله على يديه آياتٍ وعجائبَ كثيرةً ؛ ولأنه أحب حياة الوحدة كما عاشها بالدير الذي شيده في غزة..

كذلك عندما أتى إلى مصر سكن في دير الزجاج ( غرب الإسكندرية) ، وكتب مصنفاته في شكل مدارش منظومة تُنشد، أو في شكل ميامر منظومة تُقرأ ولا تُنشد - كتابات جدلية ودفاعية وطقسية وتفسيرية وخُطب منابر - وعظات ورسائل يعسر إحصاؤها ، وقصائد وأشعار وسير في التزهيد والوصف والأبحاث والشرح والمديح ، كذلك كتب نوافير عديدة ( أنافورا) اتسمت بنصاعة الألفاظ ودقة المعاني وحلاوة البلاغة والخشوع، وقد جمع بين الفكر اللاهوتي الأنطاكي والسكندري في كل كتاباته وفي دفاعه الكريستولوچي اللاخلقيدوني.

إن سيرته الطاهرة وسيفه القاطع للهرطقات كان كالأسد ، عجيبًا في قوة محبته وحفظه للأمانة الأرثوذكسية ، باسطًا يديه كموسى ؛ فأهلك أصحاب البدع ، وصعد على الجبل كارزًا بالإنجيل ؛ صبورًا محتملاً كخلية العسل والرحيق والعُصارة الروحية.

فليكن ذكراه مؤبدًا ؛ وتذكراه رائحةَ طيبٍ في سنكسار كنيستنا القبطية المجيدة التي شَرُفت بقدومه إليها أبًا وقديسًا ومدافعًا عن إيمان البابا أثناسيوس وتيموثاوس وكيرلس وديسقوروس بطاركة الإسكندرية العظام الذين روُونا بالمعرفة الصادقة..