عيد اسطفانوس
بعد أن ودعنا بغداد وودعنا بيروت وودعنا طرابلس وودعنا الخرطوم وودعنا صنعاء، ولولا ستر الله لودعنا تونس والقاهرة، اليوم وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره ويملؤها الحسرة والأسى، وعيون مملوءة بدموع دامية وعقول مشحونة بالحيرة والقلق، نودع زهرة الشام، عاصمة فينيقيا، وعاصمة الخلافة والثقافة. نودع الفيحاء الآرامية، نودع آخر أثر لسوريا (الكبرى)، نودع إلى المثوى الأخير آخر بؤر النهضة، عاصمة الهلال الخصيب، نودع الفيحاء، مدينة الياسمين، نودع دمشق الجريحة التي سقطت وسط الذئاب اللئيمة.

الذئاب المسلحة بخناجر مسمومة ومسنونة، الذئاب التي كانت مترصدة لها منذ أمد بعيد، طعنوها في مقتل وسقطت مدرجة بدمائها ولم يتقدم لنجدتها أحد. تركوها وحيدة تنزف وفي مشهد مريب اجتمع عليها قطعان الكلاب والذئاب، وبدأوا في التفاوض. الخلاف كان على من ينهش الجسد ومن يلعق الدماء.

ثم تجمعت بقية الكلاب والذئاب من كل الصحارى المحيطة، ثم حامت الجوارح مترقبة في السماء، ثم خرجت الثعالب من الجحور تطلب نصيبها من الغنيمة. مخلوقات غريبة وجوهها مكفهرة خرجت من كهوف القرن السادس. بالطبع جاء الأعداء وحتى من كانوا أصدقاء وبدأ الجميع في التفاوض، ثم بدأوا في العراك، وسيطول أمد العراك إلى أن تبدأ الروائح النتنة تتصاعد وتتحول الضحية إلى جيفة.

عندئذ سينتهي العراك ويبدأ الجميع في التهام الضحية متلذذين: الذئاب، والكلاب، والثعالب، والجوارح، والأعداء، والأصدقاء.

وداعاً عاصمة الشعر والأدب والنثر والنحو، وداعاً آخر لوحات فسيفساء الأعراق والثقافات والمذاهب في الشرق كله، وداعاً باب توما، والسيدة رقية، والكنيسة المريمية.

أما الذين يخاطبوننا أو يخطبون فينا كأننا دواب لا ولم ولن نفهم ما حدث، فهؤلاء كذبة. ليسوا كذبة فقط، بل كذبة أغبياء مدلسين.

ما حدث هو اتفاق خبيث لمحو سوريا (الكبرى) من الخريطة تمهيداً لقيام إسرائيل (الكبرى) بعد أن يتم تشظي سوريا إلى إمارة سنية وإمارة شيعية علوية ومنطقة كردية والجولان إلى إسرائيل.

ما حدث هو محاولة أخيرة لزرع نظام حكم ديني بعد أن فشل زرعه في تونس ومصر، وما حدث هو تعويض فشل هدف تمكين الشيعة في العراق بعد أن خرجت تنظيماتهم عن السياسة المرسومة وارتمت بغداد في حضن طهران.

فلا بأس من تمكين السنة في سوريا بهذه التنظيمات العميلة ليبدأ الصراع الأزلي المحتدم من القرن السابع، والنتائج معروفة سلفاً.

ما حدث هو مرحلة داخل إطار شرق أوسط جديد على رأسه ويهيمن عليه بنيامين نتنياهو ورفاقه من مجرمي الحرب. وتخبو إلى الأبد - بعد أن يتم تحييد مصر ودول الخليج - أي مظهر أو بادرة أو نية لما يسمى بالمقاومة، وتذهب قضية فلسطين إلى غياهب النسيان، وتلتهم إسرائيل الضفة وغزة إلى الأبد، وقد بدأت الإجراءات.

ألا يستحق كل ما سبق مرثية طويلة نقف فيها نحكي ونبكي على أحوالنا وما وصلنا إليه وما سنؤول إليه؟ نبكي على فرص ضاعت ومغامرات ومؤامرات صنعناها بأيدينا، وشعارات وعبارات ومهاترات وحروب وفتن استنزفت قوانا وثرواتنا وشبابنا.

ها نحن تسلية للميديا ودرامياتها المشوقة على مدار الساعة.

وداعاً دمشق.

وداعاً سوريا.