كمال زاخر
الخميس 19 ديسمبر 2024
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيان الذى القاه ابينا الأسقف الأنبا ميخائيل اسقف حلوان بشأن تجريد أحد كهنة ايبارشيته، اعادنا الى "المربع صفر" فيما يتعلق باشكالية المحاكمات الكنسية، والتى تفجرت مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، وكانت محل جدل ممتد شهدته صفحات مجلة مدارس الأحد، وكانت القاطرة التى جرت خلفها فتح ملف الاشكاليات الكنسية، ويحسب لنيافته تفاعله مع ما حملته صفحات العالم الافتراضى متعلقاً بقراره هذا وحرصه على تفسير ملابساته برؤيته.

نعود لنجد انفسنا أمام نفس الأسئلة التى طرحت قبلاً، عن ماهية المحاكمات الكنسية وأطرها ودرجاتها التى تضمن توفر اقصى حدود العدالة، وضوابطها، بين صلاحيات من يقوم عليها وحماية المقدمين إليها من عسف استخدام السلطة.

اللافت أن كنيستنا حتى اللحظة لم تقترب من منظومة المحاكمات هذه بتقنينها بوضع قانون ينظمها ويضبط ايقاعها عبر مواد قانونية عامة ومجردة وملزمة، تخاطب اطرافها، المحقق والقاضى والشهود والمقدم اليها، فى الاطار الكنسى، رغم أن ادبيات الكنيسة، بتدرجها، من الكتاب المقدس إلى ما استقر من قوانين الرسل إلى قوانين المجامع المسكونية، الى قوانين الأباء المعتبرين أعمدة، تناولت هذا الأمر وصارت مرجعيات ملزمة، ولكنها لم تترجم فى عمل قانونى معاصر كما فعلت بقية الكنائس التقليدية، وترك الأمر لتقدير الأب الأسقف.

وقد شهدت تلك السنوات التى تفجرت فيها أزمة المحاكمات الكنسية محاولات جادة للاقتراب المنهجى والموضوعى، تبلورت فى سلسلة المؤتمرات العامة التى عقدها التيار العلمانى القبطى (2006 ـ 2010)، والتى تضمنت ضمن اطروحاتها بحوثاً تناولت تقنين المحاكمات الكنسية، وقدمت للكنيسة فى حبرية قداسة البابا شنودة الثالث، مشروع قانون ينظمها، عكف على اعداده وصياغته المستشار لبيب حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة، واعيد تقديمه لقداسة البابا تواضروس عقب اعلان اختياره ضمن ملف كامل عن رؤية التيار العلمانى فى الاشكاليات الكنسية وقتها، فضلاً عن دراسة مستفيضة وموثقة قدمها أحد الاباء الرهبان الباحثين فى المؤتمر العلمانى القبطى الأول (نوفمبر 2006) بعنوان (التأديبات الكنسية فى الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسى).

ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى واحد من أهم الكتب التى تناولت بتدقيق وتوثيق أهم المحاور التدبيرية الكنسية ومنها "القضاء الكنسى"، وهو كتاب (التدبير الإلهى فى بنيان الكنيسة) ديسمبر 2001، اعداد أحد رهبان برية القديس مقاريوس. (بحسب البيانات التى حملها غلاف الكتاب.)

والبداية مع المسمى الذى لا يتسق مع رسالة الكنيسة، التى تقر التأديبات الكنسية على غرار العائلة التى تؤدب اولادها ولا تحاكمهم، والسلطان فيها روحياً وليس مادياً، وهو "سلطان المحبة التى تظهرها الكنيسة تجاه اعضائها وسلطان الطاعة التى يظهرها المؤمنون ـ طواعية ـ تجاه الكنيسة" بحسب تعبير أحد الآباء المعاصرين.

وغاية التأديبات الكنسية تتجاوز انزال عقاب على المخطئ بل رده عن طريق ضلاله، وهنا تتضح فلسفة العقوبة الكنسية، وفى هذا يقول أحد الباحثين "أن الحكم الكنسي - في حالة التأديب الكنسي على الأخص - يهدف إلى شفاء التائب. ومن هنا بدأ يظهر الخيط الذهبي الرعائى الذي يتغلغل في أحكام التأديب الكنسي في العهد الجديد، فهو تأديب للخلاص والشفاء وليس للعقاب والقصاص والانتقام، كما كان في مجتمع الدولة الرومانية القديم "للانتقام من فاعلي الشر" (ابط 2: 14).

ويحدد الباحث أهم سمات طقس التائبين وقانون التأديبات الكنسية في كنيستنا القبطية:
ـ التأديب الكنسي علاج وشفاءٌ من المرض الذي يكمن في نفس التائب.
ـ لابد أن يكون لقانون التوبة زمن محدد؛ هو "زمان التوبة".

ـ كما أن ليس لكل الخطايا حكم واحد. كما تختلف أعمال التوبة المفروضة بحسب أنواع الخطايا، كما يشرح ذلك الفصل الثامن من الدسقولية بأكمله:[ولا تحكموا حكماً واحداً على الخطايا كلها بل كقدر كل خطية، بفهم عظيم تفحصون كل واحدة من الخطايا ... فبعضٌ تقمعهم بالتهديدات فقط، وبعضٌ تحكم بأن يعطوا رحمة للمساكين، وأقوام تحدد لهم أصواماً، وآخرون تُخرجهم من البيعة إلى مدة معلومة] فصل 68،70 ونجد أمثلة لهذه الممارسات في الرسالة القانونية للقديس غريغوريوس صانع العجائب (رسالة رقم 11 ، قوانين القديس باسيليوس رقم 4 و56 و82).

ويورد الباحث استثناء جدير بالتوقف عنده: إنه استثناء الذين يشرفون على الموت وهم تحت التأديب الكنسي. فإنه كانت تجرى مصالحتهم متضمنة نوالهم سر الإفخارستيا ، كما أمر بذلك صراحة القانون 13 من مجمع نيقية المسكوني (سنة 325)، كاستثناء من حرفية القانون يتَّصف بالرحمة والمحبة (التي لا تغيب أبداً في كل معاملات خدام الكنيسة) في هذا الظرف الاستثنائي:

[ فيما يختص بالمحتضرين ، فالقانون القديم لا يزال معمولاً به، أعنى إذا أشرف شخص على الموت فيجب ألا يحرم الزاد الأخير الذي لا غنى عنه. أما إذا عادت إليه صحته وكان قد مُنح الشركة حين قطع الأمل من حياته، فليقف مع صف المشتركين في الصلوات لا غير. وعلى الإجمال، إذا احتضر شخص وطلب أن يُناوَل القربان فليمنحه الأسقف سؤله بعد الفحص]- القانون رقم 13 من مجمع نيقية المسكوني ( كما يرد مثيل لهذا القانون في القانون رقم 73 من مجموعة قوانين القديس باسيليوس).

وفى الوثيقة الإيمانية الأولى (الكتاب المقدس) يؤسس ق. بولس فى رسالتيه الى كنيسة كورنثوس منهجاً كنسياً رائداً فى قضية التأديب الكنسى، فبعدما أصدر قراره لشخص إرتكب واقعة (زنى محارم)، فى رسالته الأولى: "فانتم منتفخون وبالحري لم تنوحوا حتى يرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل. فاني انا كاني غائب بالجسد ولكن حاضر بالروح قد حكمت كاني حاضر في الذي فعل هذا هكذا. باسم ربنا يسوع المسيح اذ انتم و روحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح.ان يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع."

ولأن الكنيسة لا تقر العقوبة المفتوحة، وهى تعاقب بحنو الأبوة، فقد بادر ق. بولس فى رسالته الثانية بطلب العفو عن هذا المخطئ ، لأنه أى القديس بولس يعيش فى حالة حزن من أجله بكل مشاعر الأبوة فيقول لهم : لاني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت اليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم. ولكن ان كان احد قد احزن فانه لم يحزني بل احزن جميعكم بعض الحزن لكي لا اثقل. مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الاكثرين.حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط. لذلك اطلب ان تمكنوا له المحبة. لأني لهذا كتبت لكي اعرف تزكيتكم هل انتم طائعون في كل شيء. والذي تسامحونه بشيء فانا ايضا لاني انا ما سامحت به ان كنت قد سامحت بشيء فمن اجلكم بحضرة المسيح. لئلا يطمع فينا الشيطان لاننا لا نجهل افكاره."

كانت إشكالية "المحاكمات الكنسية" تؤرق أسقف التعليم الأنبا شنودة حتى أنه أفرد لها إفتتاحية مجلة الكرازة (يناير وفبراير 1965)، أى المقال الأول للعدد الأول من المجلة الجديدة، وهى بمثابة بحث كتابى آبائى موثق يستعرض فيه أهمية المحاكمات الكنسية وضوابطها، ثم يختتمه بسؤال وإجابته؛ كان السـؤال: ماذا يفعل الأسقف بالخاطئ بعد معاقبته ؟...       
     
وكانت الإجابة: يقول الآباء الرسل فى الباب الرابع من الدسقولية (أحد أعمدة الكتب القانونية الكنسية التراثية) [والذى مال ياأسقف أعدله]، [لا تدعه خارجاً بل إقبله .. الذى ضل، إسأل عنه] ، بل يصل حنان الآباء الرسل إلى حد قولهم [فليحمل الأسقف على نفسه إثم ذاك الذى أخطأ، ويصيره خاصة له. ويقول للمذنب إرجَع أنت. وأنا أقبل الموت عنك، مثل سيدى المسيح].

وفى تاريخ الكنيسة المعاصر نجد فى نهج قداسة البابا كيرلس السادس تطبيقاً عملياً حياتياً لمفهوم التأديبات الكنسية، باحتضانه للمشكو فى حقه خاصة عندما يكون من الاباء الكهنة، ودعوته لملازمته فى قداساته اليومية، ايماناً منه بقدرة المذبح على تقويم المعوج وضبط حياته، وعودته خادماً نقياً غسلته صلوات الليتورجيا وما اكتسبه من ملاصقته للبابا الحكيم.

وبحسب بيان أبينا الأنبا ميخائيل فإن محاكمة القس صاحب الواقعة تمت بمعرفة لجنة تحقيق داخل الايبارشية، واعتمدها الاب الأسقف وعرضها على قداسة البابا الذى فوضه فى اتخاذ ما يلزم، لنجد انفسنا أمام تحقيق وقرار تم برؤية الأب الأسقف، وتحت سلطته، وقطع الطريق على الاب الكاهن ـ المدان ـ لاستئناف القرار أمام جهة كنسية أعلى بحسب ترتيب الدسقولية التى تعطيه هذا الحق، بنصوص واضحة، بأن يلجأ الى المجمع المقدس أو الى البابا.

ولعل اباء مجمع الكنيسة برئاسة قداسة البابا يضعون نقطة فى نهاية سطر مؤرق للكنيسة وقيد الانفجار، بتكليف لجنة مجمعية قانونية ينضم اليها رجال القانون من القضاة والمستشارين والفقهاء القانونيين من ابناء الكنيسة لوضع وصياغة تقنين منظومة القضاء الكنسى وفقاً لما تقول به المراجع الكنسية الكتابية والآبائية.