بقلم: أندرو اشعياء
شكّل جمع التبرعات والإعانات من كنائس آسيا الصغرى لصالح الكنيسة الأم في أورشليم مشروعًا فريدًا أطلقه القديس بولس انطلاقًا من قناعة عميقة لديه بوجوب تبادل الخيرات الروحيّة والمادية بين الجماعات المسيحية، وايمانًا منه بروح الشركة بين الجميع. هذا كان منذ عام 49م أي بعد مجمع أورشليم (سفر الأعمال 15، الرسالة الى غلاطية 2: 10).
يبدو أن كنيسة كورنثوس أهملت هذا الواجب، وزادت على ذلك أنها اتّهمت القديس بولس بإستغلال الموضوع ليدعّم رسوليته ويثبّتها، فجاء رده في الاصحاحين الثامن والتاسع برسالته الثانية الى أهل كورنثوس.
كان يرى القديس بولس أن التبرع هو نعمة جزيلة وخدمةُ مَحَبَّة، وأرسل تلميذه تيطس الى كورنثوس مع توصية لهم للقيام بهذه المهمّة «حَتَّى إِنَّنَا طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فَابْتَدَأَ، كَذلِكَ يُتَمِّمُ لَكُمْ هذِهِ النِّعْمَةَ أَيْضًا.» (رسالة ق. بولس الثانية الى أهل كورنثوس 8: 6) إذ راى في التبرع ليس عملًا أدبيًا وانسانيًا فحسب بل نعمة «لكِنْ كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فِي الإِيمَانِ وَالْكَلاَمِ وَالْعِلْمِ وَكُلِّ اجْتِهَادٍ وَمَحَبَّتِكُمْ لَنَا، لَيْتَكُمْ تَزْدَادُونَ فِي هذِهِ النِّعْمَةِ أَيْضًا» (رسالة ق. بولس الثانية الى أهل كورنثوس 8: 7)، وخدمة «النِّعْمَةِ الْمَخْدُومَةِ مِنَّا لِمَجْدِ ذَاتِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ» (رسالة ق. بولس الثانية الى أهل كورنثوس 8: 19)، ومساواة «لِكَيْ تَكُونَ فِي هذَا الْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ لإِعْوَازِكُمْ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمُسَاوَاةُ. » (رسالة ق. بولس الثانية الى أهل كورنثوس 8: 14)
كان جدير بالذكر أن يوضح نعمة الله المعطاه في كنائس مكدونية «ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ» (كورنثوس الثانية 8: 1)، ومن المعروف أن الكنائس في مكدونية هي تسالونيكي وفيلبي «غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَنًا إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي.
وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ.
فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضًا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي.» (رسالة ق. بولس الى أهل فيلبي 4: 14 - 16).
لقد برهنت هذه الكنائس دومًا على سخاء في العطاء «مُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ يُنْشِئُ بِنَا شُكْرًا للهِ.» (كورنثوس الثانية 9: 11) ويبدوا أن كلمة ἁπλότις التي تعني البساطة أو الصدق sincere استخدمها القديس بولس لتعني السخاء والكرم، أي ليكن عطائكم عن بساطة وكرم لا عن افتخار أو تحفظ أو قيد أو شرط لأنهم شعروا جيدًا بالفقر المدقع الذي اصاب الفقراء καὶ ἡ κατὰ βάϑους أي فقر حتى الأعماق. كما استخدمه ايضًا في رسالته لأهل أفسس «أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ ἁπλότις قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ» (رسالة ق. بولس لأهل أفسس6: 5) اي بلا مضض وبلا قيود with no strings attached. وعاد ليستخدمها كسخاء «الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ، الرَّاحِمُ فَبِسُرُورٍ» (رسالة ق. بولس لأهل روميه12: 8)، واستخدمها بمعنى ايضًا الاخلاص الصادق «هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ ἁπλότις الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.» (رسالة ق. بولس الثانية لأهل كورنثوس11: 3) أي الاخلاص الصادق للمسيح.
وهو تعبير مشابه لكلمة ἀϕελότης للدلاله على مفهوم الشركة الروحية والاتضاع كما ذُكر عن الرسل أنهم «كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ ἀϕελότης قَلْبٍ» (سفر الأعمال2: 46). وايضًا لكلمة ἁπλότης «أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ، لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ بِبَسَاطَةِ ἁπλότης الْقَلْبِ، خَائِفِينَ الرَّبَّ.» (رسالة ق. بولس لأهل كولوسي3: 22) أي اتضاع قلب.
هذا التعبير كان له تأثير كبير في كتابات وفكر القديس بولس إذ ليكن عطاؤنا بإخلاص وصدق وبساطة بلا قيود وبلا تحفظ، بإتضاع؛ بالخفاء وبسرور.