خالد منتصر
المثقف الحقيقي يجب أن يكون لديه رادار مستقبلي، يتوقع ويتنبأ ليس عن تخمين أو ظنون ولكن بناء على دراسات علمية وقراءة واقعية، لا يجب أن يكون مرآة عاكسة فقط، ولكن رادارا وبوصلة وقارئ مستقبل وجرس إنذار، يجب أن يكون زرقاء يمامة، وكروان منجم، لكن ما هي حكاية زرقاء اليمامة وكروان المنجم الذي نتوقع من المثقف امتلاك حاسة التوقع المستقبلي لديهما، زرقاء اليمامة تميزت بحدة البصر وكانت تعيش في زمن ما قبل الإسلام يعود أصلها إلى جديس، إحدى قبائل العرب البائدة المنسوبة إلى لاوذ بن إرم بن سام بن نوح.
وهي قبيلة ذات جاه ونفوذ، كان لها في إقليم اليمامة المتوسط في قلب شبه الجزيرة العربية، قصور شامخة وحدائق وبساتين متنوعة الثمار، كانت ترى من على بعد مسيرة يوم، حذرت قومها بأنّ الأعداء قادمون، كانوا مستترين بالشجر، لم يصدقها قومها، حتى هجم عليهم الأعداء بقيادة حسان الحميري، وكان أول ما فعله هو اقتلاع عيني زرقاء اليمامة!
وهذا هو المكتوب عنها في العقد الفريد: «زَرقاء بني نُمير: امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء» في اللبن، وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم، فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له، حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم، فأمر أصحابَه فقطعوا شجرا وأمْسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم، قالوا لها: قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك، فكذَّبوها، وَصبِّحتهم الخيلُ، وأغارت عليهم، وقُتلت الزَّرقاء.
قال: فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل به».
أما قصة طائر الكناري في منجم الفحم فترتبط بممارسة تاريخية استخدمها عمال المناجم لاكتشاف الغازات السامة في المناجم، مثل أول أكسيد الكربون والميثان، قبل أن تصبح التكنولوجيا الحديثة متاحة.
بدأت الفكرة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كان عمال المناجم يأخذون طيور الكناري معهم إلى داخل المناجم، لأن طيور الكناري حساسة جدا للغازات السامة، حيث يمتاز جهازها التنفسي بقدرته العالية على الامتصاص السريع للأكسجين، وبالتالي للغازات السامة أيضا، إذا تسرب غاز أول أكسيد الكربون (وهو عديم الرائحة ومميت بتركيزات عالية)، سيُظهر الكناري أعراض التسمم سريعا، مثل التمايل أو السقوط، عندما يرى عمال المنجم الطائر يتأثر، كان هذا تحذيرا للعمال بالخروج فورا من المنجم أو اتخاذ إجراءات التهوية اللازمة، ولماذا اختاروا الكناري؟
الطيور الصغيرة مثل الكناري تتنفس بشكل أسرع ولها حساسية شديدة للغازات، كما أنها تصدر أصواتا مستمرة، لذا يسهل ملاحظة أى توقف أو تغيير فى سلوكها، ومع تطور أجهزة كشف الغازات الإلكترونية الحديثة في منتصف القرن العشرين، انتهت هذه الممارسة، لكن ألا تلاحظون معي أنّ نهاية ومكافأة زرقاء اليمامة والكناري هي العذاب وسمل الأعين والاختناق حتى الموت، وهذه أيضا نهاية المثقف.
نقلا عن الوطن