عبدالله عبدالسلام
شعرت بسعادة كبيرة عندما قرأت ترشيحات جامعة القاهرة قبل أيام لجوائز الدولة لعام ٢٠٢٤، وكان بينها ترشيح المطربة العظيمة فيروز لجائزة النيل للمبدعين العرب. فيروز هى «الأميرة» المتربعة على عرش الغناء العربى الحديث بعد «الملكة» أم كلثوم، وربما كان هناك مَن يعتبرونها «الملكة» أيضًا. تحولت فيروز من مطربة استثنائية الصوت إلى معنى مرادف للسمو والجمال المطلق للصوت الإنسانى. صوت آسر وحضور متفرد تجاوز ثلاثة أرباع القرن على ساحتى الغناء اللبنانى والعربى. لا تزال الأكثر تأثيرًا فى وجدان عشاقها على مدى الأجيال.
فيروز تستحق وزيادة. وقد حظيت بكثير من التكريم خلال السنوات القليلة الماضية، قَلَّ أن ناله فنان أو فنانة عربية. إصدارات عديدة رصدت ودرست تجربتها مع الرحابنة (عاصى ومنصور الرحبانى). قبل عامين، صدر كتاب «وطن اسمه فيروز»، بمناسبة عيد ميلادها الثامن والثمانين، شاركت فى تأليفه نخبة من الشعراء والمفكرين والكُتاب والإعلاميين اللبنانيين والعرب من مختلف الأجيال والمدارس الفكرية. عنوان الكتاب يقيم معادلة بين الوطن وفيروز. اللبنانيون يعتبرونها رمزًا لبلدهم. البعض يغالى ويقول إنها إسهام لبنان الأكبر فى القوة الناعمة العربية من ثقافة وفكر وفن.
لكنى تساءلت: وأين المطربة القديرة نجاة الصغيرة من ترشيحات جامعة القاهرة؟.. صحيح أن الجامعة رشحت الفنان القدير عبدالرحمن أبوزهرة لجائزة النيل للمبدعين المصريين فى مجال الفنون، وهو يستحقها تمامًا، إلا أن نجاة للأسف الشديدة تغيبت منذ فترة طويلة عن التكريم والجوائز المصرية، وأتمنى أن تبادر الجامعة أو جامعات أو هيئات أخرى بترشيحها العام المقبل. للأسف، نجاة جرى تكريمها عبر العالم العربى أكثر من مصر. الفنانة الكبيرة المولودة عام ١٩٣٨، أشهر رموز العصر الذهبى للغناء العربى فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. إنها، كما يصفها الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب، صاحبة السكون الصاخب. هى الأفضل على مستوى العالم العربى برأى الملحن المبدع كمال الطويل. الشاعر الكبير نزار قبانى يرى أن صوتها الأكثر ملاءمة لشعره فى تجسيده للمرأة الحنون الدافئة التى تجمع متناقضين: قابلية الخروج على تقاليد المجتمع وتجسيد لطموحات المرأة فى تحقيق مكانة مستقلة لها، وقابلية الانكسار أمام الرجل الذى تحب.
أما الروائى الجزائرى الكبير واسينى الأعرج فيصف أغانيها بأنها جسر من حرير بين العشاق. ويضيف:
«طفولتنا ومراهقتنا ارتبطت بحرارة صوتها». الشاعر والكاتب المغربى محمد بودويك كتب الكلمات التالية عنها: «فنانة لا تشبه غيرها فى كل ما تأتيه وتفعله. استثنائية فى كل شىء.. فى صوتها، وابتسامتها الطفولية المشرقة، ولباسها، فساتينها البسيطة البهيجة المبهجة، وأغانيها المختارة برهافة. تَيَّمَنِى صوتها ودفء طلتها وحضورها الباذخ المخملى من دون ادعاء». ورغم ذلك التقدير من النخبة العربية، فإن هناك نسيانًا للمطربة الكبيرة من الجهات الرسمية المصرية. حصلت على وسام الجمهورية من الرئيس عبدالناصر، وأوسمة أخرى من الرئيسين التونسيين بورقيبة وبن على والعاهل الأردنى الراحل الملك حسين ثم جائزة سلطان العويس ٢٠٠٦. لم يتذكرها منذ ذلك الوقت مهرجان للموسيقى ولا رشحتها هيئة أو مؤسسة لجائزة، وكأن ما قدمته من فن أسعد الملايين زال وانتهى، بينما صوتها وفنها واختياراتها الرائعة تبقى دائمًا مثار إعجاب وإقبال.
هل الأمر متعلق بأن الفنانة الكبيرة نادرًا ما تتكلم للإعلام ولا تفرض نفسها على الصحافة باختراع أخبار دعائية؟. منذ اعتزالها الغناء عام ٢٠٠٢، وعودتها ٢٠١٧، ثم ظهورها المفاجئ فى مهرجان عربى بداية ٢٠٢٤، لم تتحدث مطلقًا. أم أن المسألة تتعلق بنسيان الساحة الفنية نجومنا الكبار، أطال الله فى أعمارهم، وتركيزها على الشباب ليس فقط فى الغناء والتمثيل بل فى الجوائز والتكريمات أيضًا؟. ما يحزننى أكثر أنه عندما يكون هناك اهتمام بنجاة، فإن صحافة النميمة تفوز. يتم اجترار كلام مكرر عن أسرار تأليف الشاعر العبقرى كامل الشناوى قصيدة «لا تكذبى»، ومَن الفتاة التى عناها الشاعر والشخص الآخر الذى كان معها؟. وباستثناء دراسات قليلة للغاية، بينها كتاب «نجاة الصغيرة»، للكاتبة رحاب خالد الصادر عام ٢٠١٥، عن دار الكرمة، والذى يقدم رصدًا بالوثائق والصور لأعمالها الغنائية والسينمائية، لا يوجد اهتمام بحثى حقيقى بفنها وتقييم لتجربتها الطويلة والمميزة.
الفنانة العظيمة المتفردة نجاة آخر مَن بقوا على قيد الحياة من المطربين الذين شاركوا فى النشيد الأيقونة
«وطنى حبيبى الوطن الأكبر»، (١٩٦٠)، بعد رحيل عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وشادية وصباح ووردة. الاحتفاء بها تكريم لعظماء نهضة الفن العربى، وتعريف للأجيال الجديدة بفنانة مازال ملايين العرب يربطون بين أغنياتها ومناسباتهم الجميلة. فنانة أضاءت حياتنا بجمالها ورقة إحساسها وعذوبة صوتها.
نقلا عن المصرى اليوم